في تفاصيل وحيثيات وأفكار ونظريات العمل السياسي موال كان أم معارض، في وقت تجتاح فيه شخوص الموت وأدواته البيت والشارع والبلدة والمدينة، حتى لتبدو كأنك في واد تصرخ مخنوقاً، والعالم الآخر المحيط في واد آخر .. أنت تراه بأم عينك وتسمع كل همهماته وأنفاسه الحارة الموبوءة، ترى الدم جاريا أمامك على يديه، وجثث الأبرياء مقبورة في منازلها دون صلاة أو شواهد, وهو لا يراك ولا يسمعك، بل لم يعد يريد أن يراك أو يسمعك!
كيف لك أن تتحدث إلى الثكالى والأيتام عن صناديق الانتخابات والأصابع المغموسة بالحبر، وعن الأحزاب والتيارات والتحالفات السياسية جديدة كانت أم قديمة، وعن أوراق وقوائم اسمية تصنف الناس بين يمين ويسار ووسط ... ؟
كيف لك أن تتحدث إلى المشردين والنازحين عن بيوتهم وبلداتهم، حول المجتمع المدني والجمعيات الأهلية والعمل الوطني، وأن تتفلسف في ما هو شأن عام وما هو شأن خاص، وفي مقومات تربية الوعي الحضاري وتنشئته.. ؟
كيف لك أن تتحدث إلى المهجرين والمغتصبين والمقهورين، عن الحملات الانتخابية والبرامج السياسية والحريات الفردية والعامة وضرورات الحفاظ على الأسرة وتنشئة الجيل، وعن الأمن الاجتماعي والدساتير والقوانين والتشريعات الناظمة ؟
لغة الكلام تعطلت والألسنة خرست والأفواه أقفلت، ولا شيء سوى الرصاص فيصلاً وحكماً في صراع أكبر من سلطة ومعارضة، وأوسع من جغرافيا ووطن، صراع على اغتيال عشرة آلاف عام من الحضارة السورية، يراد شطبها بالرأس الخليجي الهمجي لقلم الرصاص الأميركي, والكتابة على الصفحة ذاتها.. هنا وئد وطن وولدت أوطان!
هي الحرب الوطنية العظمى لسورية والسوريين، وهي الفاصلة التاريخية الأهم حيث سورية من بعدها ليست هي سورية من قبلها، وحيث السوريون من بعدها ليسوا هم السوريين من قبلها، وحيث للحديث عن الحرية والديمقراطية من بعدها لون وطعم .. ورائحة من ياسمينها!!