تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أعمدة من ورق«11»

الثلاثاء 9-2-2010م
أسعد عبود

دون تحكم كامل بما أريده.. أو بصراحة دون معرفة به.. بدأت تجربة «ناجح ويعيد» .. دورة فيزياء.. دورة انكليزي وساعات طويلة في المنزل والزعم أنه الاستعداد لاكتساح بكالوريا «غير شكل» من أجل كلية في الجامعة «غير شكل».

مطلع شتاء 1965 والعالم من حولنا يغلي.. لا شيء يوحي بالاستمرار ولا بالاستقرار والدنيا شائعات.. أنا وهواجسي وأحلامي في اليقظة حتى ضبطت أكثر من مرة.. أتحدث.. أخطب.. أضحك.. لوحدي.. هل اقتربت من الجنون؟!‏

كنت قابلاً أن أفعل أي شيء.. كل شيء.. إلا الغرق في دراستي.. كان ذلك صعباً جداً.. وظلال شعور بالانكسار يهدهد وحدتي بين فترة وأخرى..‏

كل زملائي اتجهوا حيث قدّر لهم..‏

هذا في جامعة وآخر في معهد.. هذا سافر.. وهذا إلى الكلية الحربية وهكذا.. هو عام حاسم يفصل بين حياة المدرسة والجامعة لكنه مرصود للعزلة.‏

نبرات التحدي كانت تردني دون حساب.. مرة لتنبهني كي أشدّ من وقع الخطا ومرة كي تشمت بي، كان أقساها أنّ أم قصي قالت لي: انتظر سيسبقك قصي، كنت بجد أحبه وأتمنى له كل الخير.. لكنني خفت هذه النبوءة.. وأنا أعلم كم أدّخر من هواجس تعوم على بحر من الكسل.. قد يسبقني.. من يدري..؟!‏

لكن..‏

في ساعة ضجر.. في يوم أشرقت شمسه على جليد المسطحات وزوايا الأرصفة.. دخلت الجامعة لأول مرة في حياتي..‏

كنت خائفاً متوجساً فأنا لست بجامعي.. وعلى الباب أمام كشك صغير لوحة صغيرة كُتب عليها: إن دخول الحرم حكر على الطلاب.. وأمام وجهي ظهرت «آرمة» فوق باب عتيق لمبنى قديم كُتب عليها كلية الحقوق.‏

تذكرت ناديا رفيقة السفر.. لكن.. هي لن تداوم.. أخبرتني بذلك ولن أجدها.. المهم أنني عبرت الباب وفي يدي «الثورة» تفتلت حول الحديقة الصغيرة أمام مبنى الحقوق ثم صعدت بضع درجات لأصل إلى المقصف الذي امتلأ بالدخان وقرقعة الكاسات والطلبة.. وقبل أن يصيبني الوجل رأيت يداً ترتفع لي.. أومأ يدعوني إلى طاولة لأكون رابعهم.‏

كان أحمد.. وعلى الفور سألني:‏

< ماذا سجلت؟!‏

- أعيد البكالوريا.‏

< أحسن.‏

- شو أحسن..‏

< أحسن ما تصير ضابط..‏

- لماذا .. ما به الضابط؟!‏

< أخاف أن تسعى إلى انقلاب..‏

كانت فترة حرجة.. الشائعات تملأ الشارع «قاموا فلان وحطوا فلان» ومعيار التقييم الأول هو القوة.. ومعيار القوة كم ضابطاً مستعداً لتنفيذ الأوامر؟!‏

أخذ الجريدة من يدي وقال:‏

ما هذه؟! «الثورة» خلف القصر العدلي.. أتذكر رسائلك إلى هذا العنوان.. ما هذه «الثورة»؟.‏

- جريدة أقرؤها.‏

< كيف تستطيع أن تقرأها «وأخذ يتصفح صفحتها الأولى».‏

- لم لا؟!‏

< وإذا وجدت لك غلطة في صفحتها الأولى بالعنوان العريض.. وضحك ومعه زميلاه..‏

أحسست بالتحدي.. وشعرت باستصغار شأني..‏

كان مانشيت الثورة بالأحمر في عدد 4 كانون الأول 1965 يقول:‏

«فيصل يرد على المؤتمرين بحرض»‏

تابع أحمد:‏

< انظر كيف كتبوا بحرص.. أضافوا نقطة.. بسيطة!!‏

أعاد لي الصحيفة وقال:‏

- أرأيت لماذا لا أقرؤها؟..‏

سعد الثلاثة لأنهم لا يقرؤون الثورة.. وانكسرت أنا لأني من قرائها.. ولكني لأول وهلة خسرت الجولة.. ثم وأنا أقول لروحي:‏

كل الناس تغلط.. ماذا لو كانت غلطة في الجريدة. رأيت كلمة «حرض» تتكرر..‏

قرأت الخبر.. كنت اشتريت الجريدة من باب الجامعة ولم أقرأها بعد.. كان الخبر يدور حول مؤتمر لليمنيين المتصارعين بين الجمهوريين وجماعة الإمام البدر أقيم في مدينة يمنية اسمها «حرض».. هكذا أتذكر.. وما لا أنساه شعوري بفرحة الثأر من أحمد وردّ الاعتبار لي.. سألته:‏

- لم تقل لي في أي فرع سجلت؟ «وكنت أعلم»‏

< جغرافيا..‏

- أحسنت الاختيار..‏

< لماذا؟!‏

- أولاً هذه فرصتك لتكون أستاذ جغرافيا بقرية ما، وتتزوج صبية من ضيعتكم وتعيشون .. وتقضي كل الصيف في الراحة.‏

< وثانياً.؟!‏

- كي تتعلم جغرافيا وتعرف أن في اليمن مدينة اسمها «حرض».. وبالتالي تقرأ جريدتي بشكل صحيح..‏

< جريدتك؟!‏

- نعم..‏

وجم الجميع.. وسكتُّ أنا.. ولم أنتظر الشاي التي وعدت بها بل خرجت والصحيفة بيدي..‏

بصراحة بيني وبين نفسي أنا اعتذرت للجريدة.. أنا أيضاً يجب ألا أشك بها.. يجب أن أتأكد.. ولو أنني وجدت في مرات سابقة العديد من الأخطاء.. لكنني لم استسلم لخطأ من النظرة الأولى.. ولم أروّج لخطأ لم أتأكد منه.. متشدقاً بأنني لا أقرأ الجريدة. وما زلت حتى اليوم أسأل ولا أجد جواباً: كيف يقيّم جريدة من لا يقرؤها ..‏

ذاك اليوم أحسست برغبة للقاء ناديا..مررت من الحقوق علّي أراها بالصدفة.. أشعرها لسبب ما من قراء الثورة..‏

لكن..‏

a-abboud@scs-net.org

تعليقات الزوار

قمر السنديان |  dhds77@yahoo.com | 09/02/2010 14:05

اجمل ما في جريدة الثورة اليوم انك تزينها بكتاباتك الرائعة الى الامام دوماً

مـــــاهـــر |  maher-669@hotmail.com | 12/02/2010 00:44

في الواقع هذه السلسلة من اعمدة من ورق أعجبتني وشدتني لأن أقرئها في كل اسبوع.. صحيح أن فيها خصوصيات.. لكن اسلوبها جميل.. ويأخذ القارئ الى مزيد من اعمدة ورقية اخرى في كل اسبوع.. نتمنى لك التوفيق استاذ اسعد.. وكل ورقة من أوراق الاعمدة وأنت بألف خير..

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 أسعد عبود
أسعد عبود

القراءات: 645
القراءات: 948
القراءات: 931
القراءات: 906
القراءات: 954
القراءات: 992
القراءات: 999
القراءات: 980
القراءات: 1073
القراءات: 1088
القراءات: 1023
القراءات: 1066
القراءات: 1038
القراءات: 1077
القراءات: 1334
القراءات: 1217
القراءات: 1121
القراءات: 1142
القراءات: 1201
القراءات: 1201
القراءات: 1208
القراءات: 1229
القراءات: 1223
القراءات: 1277
القراءات: 1278

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية