واشتعال الحنين في زمن نعيد اكتشاف نكهة الشعور القومي والعروبي يولّد المنعطف على الدرب الطويلة، وقد يكفي كي نحيّد من هوامشنا ما علق على الطريق الممتد في وجداننا.
ويحنّ إلى تشرين السوريون كما هم المصريون الذين يستحضرون دفاتره القديمة بعد أن أحضروا قبلها رموزهم القومية في العروبة، وقد باعدت بينهم السياسة، وفرقت بين أجنحتهم أهواء الحسابات وأجندات الارتهان للآخر، بعد أن أعتاد تشرين أن يمرّ في سنواته الماضية مجرد ورقة في روزنامة الأيام.
هذا العام .. يجمع تشرين أوراقه ويعيد ترتيبها، والأحداث صغيرها وكبيرها يتحول إلى استثنائي في توقيته وأسلوبه ووجوده، وروح تشرين التي استولدت في العروبة أمكنتها الراحلة على أجنحة النسيان تستعيد وهج بصمتها في سماء المشهد، وتضع على مفارق الأزمنة المختصرة أمتعتها، وتقيم بين هذه وتلك متنقلة من كتف إلى كتف، تستعين بما تختزنه السنوات في حاضرها وماضيها.
جناحا العروبة محكومان هذه الأيام بالظروف ذاتها رغم الفارق، وما فعله الإخوان يستدرج بالضرورة الحديث المطول عمّا فعله التكفيريون بقاعدة إخوانية لا تخفي ذاتها ولا تستبعد أصابعها في تجارب مريرة كرستها سنوات الفرقة، ورسّختها دروس الابتعاد عن تشرين الإرادة والتحدي، وربما تجاهل ما ينطوي في عباءة التوحد العروبي على قاعدة البعد الاستراتيجي ومستلزماته، والعمق الذي يتجسد في الملاحم التي سطرها في الوجدان العربي.
لسنا بوارد الوقوف على الأطلال، وكثير منها قد بعثرته رياح الفرقة والتخاذل, ورسمت بين أطرافه جدراناً من العزلة, وأقامت أسواراً من الخلاف والاختلاف في المقاربات التي تجاذبتها أهواء وحسابات ومعادلات من خارج سطور المصالح القومية، وبعيداً عن معادلات الأمن القومي، ورهنت مقدرات وإمكانات الأمة، وأهدرت طاقات أبنائها ونقاط تقاطع وتطابق في رؤيتهم وسلوكهم وأمنياتهم التي رسمتها وحدة المصير والوجود.
اليوم.. ما تشهده القاهرة يتردد صداه في دمشق، وما يحاك ضد سورية تتحسسه شوارع مصر وأزقتها، رغم محاولات الكثيرين التشويش المتعمد عليه، ورغم حملة الفبركة المتقنة في السياسة والإعلام والوجود، وصولاً إلى الضخ المتواصل للأكاذيب والادعاءات، وما تمليه من فروض تتقاطع مع بعضها البعض على قاعدة النيل من تراث الأمة وحضورها وتاريخ ما تختزنه في وجدانها من عوامل أثرت بوجودها ساحة الحضارة الإنسانية.
تشرين لم يعد ذاكرة في أيام مضت، ولا هو سطر أو صفحة في دفاتر أعدت أوراقه على عجل في تاريخ يصعب أن يعيد نفسه، لكنه استحضار للحاضر بصورة الضرورة، واستعادة للماضي بلغة التشابه في التحدي والتماثل في التهديد القائم وفي أدوات العدوان، حتى لو غيرت من لبوسها أو عدّلت من أشكالها ونماذجها، وما يجري ليس أكثر من انعكاس عملي لما يريده العدو الذي حاربته سورية ومصر في تشرين، والمخطط القائم ليس إلا خدمة لأهدافه وتحقيقاً لوظائف وجوده.
سنكتب في دفاتر تشرين المعلقة في وجداننا بعضاً مما كُتب قبل أربعين عاماً، وسنضيف الكثير مما لم يكتب حينها، وسنسجل في صفحاته جزءاً مما احتوته، لكننا أيضاً سنخط ما لم يتح الوقت لنا أن نكتبه بعد كل هذه السنوات، والأهم أن نستعيد ما فعلته أوراق تشرين فينا، وما رسمته من حدود إضافية لأحلامنا وطموحاتنا، وما حددته من قواسم لم نكن نجهلها، فنعيد التعرف عليها، أو نوقن ونؤمن بها أكثر من أي وقت مضى، وقد جمع تشرين أوراقه التي لفظت خارجاً من تلطى بعباءة العروبة زوراً وبهتاناً.
a.ka667@yahoo.com