وأميركا وخلفها أو معها الاتحاد الأوروبي ممثلا بفرنسا وبريطانيا والمانيا، أي بصيغة أخرى إنها مفاوضات بين ايران وحلفائها من البريكس، وأميركا ومعها اتباعها الأوروبيون، بعد كل هذه المواجهات وما رافقها من متغيرات، وصل الملف النووي الإيراني إلى مرحلة حرجة شبه حاسمة. حيث دخل المتفاوضون في الأسبوع الأخير الذي حدد موعدا للبت بالملف.
ومع اقتراب المهلة النهائية هذه وقبل أن يحسم امر الاتفاق حول الملف سلبا أو إيجابا نرى أن ما سبق من مواجهة وتفاوض سابق افضى إلى إرساء ثوابت لا يمكن لأحد بعد اليوم تخطيها، ولكن لا يمكن أيضا تجاهل العوائق التي مازالت تعترض التوقيع على الاتفاق النهائي المحكوم بتلك الثوابت.
فبالنسبة للثوابت نرى أنها باتت ثلاثة بحيث نستطيع وبكل ثقة وطمأنينة أن نقول بان إيران انتزعت أو فرضت على الخصم أو الطرف المفاوض الآخر أمورا لم تكن قائمة في ذهنه أو لم يكن يتصور حصولها دون مشيئته وقراره ثم جاءت المتغيرات الدولية لتضيف إلى تلك الأمور مسائل أخرى أكملت الثوابت التي نتحدث عنها حتى باتت كالتالي:
- التسليم الدولي النهائي ضمنيا أو صراحة بحق إيران بالتقنية النووية، تسليما لا رجعة فيه وعلى الاتجاهين حيث أن إيران تمتلك القرار النهائي بعدم التنازل عن هذا الحق، وأن الطرف الآخر بات عاجزا عن ثنيها عن ذلك. فالثابت هو الإقرار بالحق والمتبقي هو تحديد حجم هذا الحق ومداه كما يبدو من التسريبات التي ترافق التفاوض الآن خاصة لجهة درجة التخصيب (20 أو 5 أو 3.5 %) وحجم وعدد أجهزة الطرد المركزي، وأخيرا حجم الوقود النووي المخصب بدرجة 20% الذي تحتاجه إيران ومصدر حصولها عليه.
- التسليم الدولي بان حل المسألة لن يكون عسكريا مهما طال الوقت والسبب في ذلك عائد إلى امرين الأول يتعلق بقدرات ايران العسكرية التي ارتقت إلى مستوى دفاعي ذاتي يمنع الخصم من تحقيق أهدافه اذا نفذ أي هجوم عدواني والثاني عائد إلى وضع الدول الغربية التي لا تمتلك القدرات على شن عدوان ناجح على ايران دون أن تعرض مصالحها لردة الفعل الإيراني المؤلمة إلى درجة لا تحتملها تلك الدول ذاتها فضلا عن حلفائها واتباعها في المنطقة، وهي ثابتة تؤكدها أيضا خريطة العلاقات الدولية بين الأطراف المتفاوضة كما ذكرنا أعلاه.
- حاجة الأطراف إلى حل الأزمة سلميا وبالحد الأعلى من المكاسب والأدنى من التنازلات و«الخسائر»، حيث انه يكون من المكابرة أن يقول أي من اطراف المواجهة أو التفاوض انه ليس بحاجة للاتفاق، لكن هذه الحاجة لم تصل لدى أي من الأطراف إلى الحد الذي يجعله يقبل بالاتفاق باي ثمن، فاذا كان الاتفاق حاجة لكل الأطراف، فانهم جميعا يرون أن الاحتفاظ بالأوراق الأساسية التي يملكونها والتي مكنتهما من احتلال مقاعد على طاولة التفاوض هو ضرورة لأنها هي مصدر قوة المتفاوضين الاثنين الذين آل اليهما الأمر (أميركا وايران).
على ضوء هذه الثوابت ينفق المتفاوضان الوقت بحثا عن حل تريده ايران للتخلص من العقوبات المفروضة عليها دوليا وغربيا، ما يحررها من تلك القيود التي لا تميت ولكنها ترهق وتعيق الحركة الإيرانية الداخلية والدولية، وتريده أميركا لاستثماره في اتجاهين داخلي يمكن أوباما الخائب انتخابيا مع حزبه الديمقراطي في الانتخابات النصفية الأخيرة، تمكنه من التباهي بإنجاز دولي كبير يمكن صرفه في الانتخابات الرئاسية المقبلة لمصلحة حزبه، ويسجل في صفحته الفارغة من الإنجازات الكبرى، وخارجي يمكن أميركا من احتواء ايران وحركتها الإقليمية ودفعها لمقايضة ملفها النووي وما استتبعه من عقوبات، مع ملفات إقليمية تعتبرها أميركا هامة في استراتيجيتها في الشرق الأوسط.
ومع اختلاف النظرة إلى هذه الأمور تكمن العوائق التي قد تطيح فرصة الاتفاق في الأسبوع المقبل دون أن تسقط مسار التفاوض، وبصيغة أخرى فإن عدم الوصول إلى اتفاق في 24 تشرين الثاني \نوفمبر الحالي لا يعني انهيار جسر التفاوض والعودة إلى المربع الأول، لان للطرفين مصلحة ثابتة وأكيدة بعدم التراجع والاحتفاظ بما تحقق والصبر لتوفير فرص النجاح مستقبلاً.
وفي عودة إلى الذهنية التي تحكم سلوك الطرفين وتنتج العوائق، نرى أن أميركا تريد أن تفاوض إيران وهي مكبلة بقيود تؤذيها، تتصل بشأن ذاتي، ولأجل ذلك تصر أميركا على منطق المقايضة بين الملفات، بينما ترفض إيران التفاوض على أي شيء اخر قبل أن تكون طليقة اليدين فيما يعني أمورها الذاتية لذا فهي تصر على إقفال الملف النووي، كما تصر على رفع العقوبات مهما كان مصدرها (أممي، أميركي، اوروبي) وألا تدخل في التفاوض حول أي ملف اخر إلا بعد أن تطوى هذه المسألة.
ومن جهة أخرى تريد أميركا أن تضع خطاً أحمر وبشكل نهائي أمام إيران يمنعها من تطوير قدراتها النووية مستقبلا حتى وفي المجال السلمي إن لجهة نسبة التخصيب أو لجهة عدد أجهزة الطرد المركزي أو لجهة قدرات الأجهزة المستعملة، أي بمعنى اخر تريد أميركا مصادرة حق إيران بالتطور، بينما تتمسك إيران بهذا الحق مع التزامها بعدم خرق قواعد الاتفاقية الدولية بحظر انتشار السلاح النووي.
أما على صعيد الحرب على الإرهاب خاصة ما تدعيه أميركا من حرب ضد داعش وتريد أن تنضوي ايران في التحالف الذي أنشأته لهذه الغاية لتجد نفسها في لحظة معينة قائدة لحلف تحتل ايران مقعد عضوية فيه، فان ايران رغم اتفاقها مع ما تعلنه أميركا من حرب ضد هذا التنظيم الإرهابي، فإنها تشكك بالنوايا الحقيقية لأميركا في هذه الحرب، وترفض الانضواء في التحالف الدولي الذي تقوده أميركا لان هذا الأمر لو حصل سيكون مدمرا لاستراتيجية إيران الاستقلالية وهيبتها وصدقيتها، ما يحد كثيرا من تأثيرها الإقليمي في اكثر من اتجاه.
وخلاصة الأمر ورغم كل ما انجز على طريق إغلاق الملف النووي الإيراني، فان توقيع اتفاق نهائي بين الغرب بقيادة أميركية وايران بدعم مزدوج من روسيا والصين ليس امراً حتميا بل قد يكون الاستمهال مرجحا، وعندها ستكون ضغوط جديدة في ميادين الشرق الأوسط التي أنضجت نيرانها بيئة التفاوض، والتي قد يكون المعنيون بحاجة لطاقة اكبر في هذا السبيل، وهنا قد يكون صوابا التوقع بان الحرب الحقيقية التي يشنها محور المقاومة على الإرهاب في سورية والعراق ستكون اشد وطأة على داعش ومثيلاتها وراعيتها الحقيقية أميركا، وستكرر مشاهد جرف الصخر وبيجي في العراق، ومورك وجبل الشاعر في سورية، وعندها قد لا يكون البحث في مقترح دي مستورا لجهة «تجميد النزاع» في حلب مقترحا يستحق وقتا لدراسته.