يأكلون حقوق الناس, والقسم الثاني أقل سوءاً, يعني أنهم يدفعون للناس حقوقهم, ولكن متى؟ بعد سلسلة طويلة من التهرب والمراوغة والتسويف والمماطلة.
قلت لأبي الجود: صدقني, وأنا أخوك, إنني لم أسمع بمثل هذا الكلام من قبل, وعلى فرض أنني متّ البارحة, لما كنت سمعت بهذا الشيء طيلة حياتي.
قال: معك حق أن تقول هذا الكلام, على كل حال اعتبرني كاذبا مفتريا, واذهب بنفسك إلى المزارعين, ومن خلال الأخذ معهم والعطاء بالكلام لابد أن تصل إلى الحقيقة.
وإكراما للإخوة المزارعين, ولروح المرحوم أبي الذي كان مزارعا, فقد ذهبت إلى إحدى قرى محافظة إدلب, ولي فيها صديق يعمل في الزراعة, أخبرته بما سمعت, فلم يؤكد كلام أبي الجود, ولم ينفه, بل سارع إلى الاتصال بعدد كبير من المزارعين ودعاهم إلى سهرة عنده في المضافة, وحينما اكتمل نصابهم أخبرهم صديقي بما أخبرته به نقلا عن أبي الجود, فاندفعوا يتحدثون جميعاً في آن واحد, مثل عش النحل.. الأمر الذي اضطرني للاستنجاد بصديقي الذي أسكتهم ورجاهم أن يتحدث كل واحد منهم على حدة لكي أفهم أنا الحديث وأستوعب الملابسات.
إن ما فهمته منهم, كخلاصة للموضوع هو التالي:
لقد حصد هؤلاء القوم قمحهم وعدسهم وحمصهم قبل زمن يتراوح بين شهر ونصف وثلاثة أشهر, وسلموها للمؤسسة العامة لإكثار البذار التي شكرتهم- بدورها- على التزامهم بالنظام, وقالت لهم: الله يعطيكم العافية ويرزقكم ويقويكم ويديمكم ذخرا لهذا الوطن المعطاء.
هذا ما يتعلق بالحكي والمجاملات والذي منه, ولكن أحدا من موظفي المؤسسة لم يمد يده إلى صندوقه أو دفتر شيكاته ويدفع قرشا واحدا من أثمان هذه المواد التي تقدر في محافظة إدلب وحدها بأكثر من ثلاثمئة مليون ليرة سورية.
وأما العمال والفلاحون والعتالون وسائقو الشاحنات والتركتورات والبيكابات والطريزينات الذين ساهموا في جني المحاصيل وتحميلها وإيصالها معطرة ممسكة إلى أبواب مستودعات المؤسسة العامة لإكثار البذار فأصبحوا يذهبون إلى المزارعين أصحاب المحاصيل, بمعدل مرتين في كل يوم, ليطالبوهم بأجورهم وأتعابهم, فيعطونهم الوعود تلو الوعود بأن يدفعوا لهم مستحقاتهم بمجرد ما يقبضون أثمان بضائعهم من المؤسسة.
ومن كثرة ما طالبوهم.. ومن كثرة ما ماطل المزارعون وسوفوا وراوغوا وأقسموا الأيمان الكاذبة بأنهم سيدفعون... خرجت تلك الإشاعة التي تقول إن المزارعين نصابون.