وفي بعضها لا تخفي نياتها في قضم الذاكرة، وأحياناً بترها بدءاً من قلب الصفحة والانطلاق من نقطة الصفر وفي بعضها من قبل نقطة الصفر بكثير، وليس انتهاء بالسعي المحموم إلى تبييض سجل الكثيرين ممن أدمنوا لغة الإرهاب فعلاً وممارسة .. دوراً ووظيفة.
لسنا بوارد النبش في أوراق الماضي على كثرتها، لكن في الوقت ذاته، ليس من الحكمة في شيء أن نتجاهل كل ما تراكم، أو ننسى كل ما جرى تحت شعار البحث في أحجيات الاعتدال، بما فيها تلك التي تتبجح بالسعي وراء تسهيل الجهد الدولي الذي لم نقصر يوماً في التعاطي الإيجابي معه، وإن لم نتركه عرضة لتأويلات تمرر من تحتها أو فوقها، ما عجزت عن تمريره عبر صيغ من النفاق والمراوغة السياسية وغير السياسية.
فالفارق بين التعاطي بإيجابية، وبين بتر الذاكرة، أو إلغاء كل ما مر، وما يترتب عليه، مسافة فاصلة أكبر بكثير من احتمال الخلط، وأبعد من حدود الخطأ في تحديد التفاصيل والعناوين المختلفة إلى حدود التناقض في بعض جزئياتها، وهو ما نستطيع أن نجزم بأنه العتبة التي لا يمكن تخطيها، وتشكل حائط سد احتياطياً أمام كل المحاولات، بدليل أن الكثير من البدع التي اشتقها الإعلام الغربي والبروباغندا المصاحبة له، لا تصلح إلا لمداعبة أطماعه في المنطقة، وبما يخدم أجنداته، ولا يجرؤ على تطبيقها إلا هنا، وهي باختصار وصفة خاصة بطريقة تخريب الدول، أو ببساطة ممر للي عنق القانون والشرعية الدولية والتاريخ والجغرافيا وحتى الدبلوماسية.
فالمعارضة في كل الكون هي تلك التي تمارس دورها وفق القانون، ومتى خرجت عنه، وتحولت إلى السلاح لا تصبح معارضة، بل لها تسمية أخرى، وإن اختلفت من مكان إلى آخر فإنها في الحد الأدنى لم تعد تصلح تسمية معارضة عليها، ولا يوجد في كل قواميس السياسة، ما يمكن أن نسميه المعارضة المسلحة، والحال ينسحب على شواهد تبدأ من هنا، ولا تنتهي، ويصعب على العقل أن يتخيلها، أو أن يتقبلها، ومع ذلك لا يزال الاجترار فيها على قدم وساق.
الأخطر من ذلك حديث الاعتدال على بساط من التسميات الدارجة التي يلوك فيها لسان الدبلوماسية والإعلام، فكل من حمل السلاح في وجه الدولة، ومارس القتل، يسمى في كل الدول، ومن دون استثناء، ومهما تكن مبرراته أو ذرائعه، في الحد الأدنى متمرداً على الدولة وخارجاً على القانون فما بالك حين يكون منظماً إرهابياً، إلا هنا يريدون أن يغوصوا في قاع النفاق إلى الحد الذي يصبح فيه الإرهاب بنسختين ونوعين ونموذجين وهيكلين.. فيه المعتدل أو التائب، أو الذي يريد أن يتوب ويمكن التعامل معه، بل ثمة من يحاول أن يفرض التعامل معه قسراً تحت حجة المسار السياسي، وفيه متطرف يجب محاربته حين يخرج عن باب الطاعة الأميركية، في ادعاء أجوف للتسويق السياسي المحض، وبأجندات وظيفية، تتخمها ألغاز الاعتدال.
الأكثر من ذلك.. من يتحدث عن جماعات وتنظيمات، اتخذت تسميات ذات بعد سياسي بما فيها وما عليها، وهي التي مارست الإرهاب على الملأ، وكانت أول من مارس وحشية أكل القلوب والأكباد والتشفي في التمثيل بالجثث، والقائمة تطول، وهي ليست من داعش ولا النصرة، بل من تلك التنظيمات الأخرى التي تروق لواشنطن وغيرها أن تفاخر علناً تزويدها بالسلاح والدعم والاستشاريين.. واليوم يراد لها أن تبيض صفحتها، لتصبح غير إرهابية، في وقت باتت أقرب إلى مجموعة ناطقين إعلاميين أكثر مما هم على الأرض بدليل أن البحث الجاري عنهم، لم يصل إلى نتيجة، ولن يصل.
لا نريد أن نستفيض في الأدلة والقرائن، ولا أن نستغرق في المحاججة، ولكن في الوقت ذاته لسنا على استعداد لمسح ذاكرتنا، ولا على غض الطرف في وقت لا نسمع، ولا نرى، ولا نلمس إلا أشد حالات التصعيد التي ندفع فيها ثمناً من دمنا وحياتنا ووجودنا.. والإرهاب الذي علا صوتهم في إدانتهم، وحديث الويل والثبور، لا يثير إلا زوبعة من غبار لا طائل منه، ولا جدوى، وإن كان يختصر المشهد، لكنه لا ينهي المعضلة، ولا يعالج المشكلة بقدر ما يزيد من تفاقمها.
فمحاولات البحث الغربي داخل أحجيات الاعتدال، وفي أقبية المعتدلين، وجحورهم لا تزال جارية، ما دامت حروب وكلائهم في رعاية الإرهاب تفضي إلى مزيد من الخراب والدمار، ولن تنتهي إلا إلى حيث انتهت في نيويورك وباريس وغيرهما، ولن توصلها إلا إلى حيث أوصلهم نفاقهم في محاربة داعش، ليبقى الإرهاب بأذرعه المتطرفة، من جبهته إلى قاعدته وخليفته، وبأطرافه «المعتدلة» غاية بحد ذاته، وهدفاً معلناً وصريحاً بلبوس المعتدل، أو برداء الاعتدال..!!
a.ka667@yahoo.com