| قراءة أولية في الاستراتيجية السورية (21) جدلية الحرب والسلام (3) معاً على الطريق كنت أتابع في تلك الأيام العصيبة بشكل مكثف إذاعة الC .B.B باللغة الإنكليزية, وبعد سقوط القدس الشرقية عقد وزير الحرب الإسرائيلي موشي دايان مؤتمراً صحفياً فألصقت أذني بالمذياع وأخذت أتابع بأنفاس محبوسة الأسئلة الخبيثة والأجوبة اللئيمة. كان السؤال الأخير هو: ما الذي تخطط له الآن? فأجاب: إنني أتهيأ لخوض المعركة الاستراتيجية, فما كان من الصحفي إلا أن سأله بدهشة بالغة: ولكن عن أي معركة تتحدث بعد هذا الانتصار العسكري الحاسم? فقال إنني اتحدث عن معركة السلام فإنها تبقى أهم وأخطر وأشرس المعارك. حرب 1967 استغرقت اقل من اسبوع لكن حرب السلام مازالت متواصلة مند اربعين سنة ولا نعرف الى متى ستستمر فطالما ان مفهومنا للسلام هو استعادة حقوقنا المشروعة كاملة وغير منقوصة وفق القرار الاممي 242 وطالما ان مفهوم الكيان الصهيوني هو قضم ما يمكن قضمه من تلك الحقوق وشطب وإلغاء قرارات دولية وعلى رأسها القرار 149 القاضي بحق اللاجئين بالعودة الى ديارهم فإن حرب السلام ستبقى مستعرة وستتخللها حروب عسكرية لا محالة فإن لم يكن هذا الصيف ساخنا فيما فيه الكفاية فإن صيوفا قادمة لا بد من ان تحمل شواظا من جهنم. خسرنا حرب عام 1967 وتضاعف حجم الكيان الصهيوني بعدها ست مرات ورغم كل تلك المرارة التي لا تشبهها مرارة الا ان الشعب العربي من المحيط الى الخليج رفض الاعتراف بتلك الهزيمة وحين اعلن الراحل جمال عبد الناصر استقالته من رئاسة الجمهورية واعتزاله العمل السياسي في خطاب متلفز بتاريخ العاشر من حزيران عام 1967 اركنت الجماهير القهر ومرارة الهزيمة جانبا واكتسحت الازقة والطرقات والشوارع في مختلف المدن والبلدات والقرى المصرية بشكل عفوي رافضة ذلك القرار وتابع الشعب العربي تلك التطورات الدراماتيكية حابس الانفاس. وفي عام 1968 انعقد مؤتمر القمة العربية في الخرطوم وغابت سورية عن ذلك المؤتمر خشية ان تتخذ قرارات استسلامية محرجة لكن المؤتمر الذي انعقد في اجواء ملأى بالاحباط والهزيمة والانكسار فاجأ الجميع بلاءاته المدوية التي رفضت اي مفاوضات او معاهدات او اعتراف بالكيان الصهيوني. وبدأت بعد ذلك حرب الاستنزاف ودفعت مصر الشقيقة اثمانا اكثر من باهظة اذ كان عليها ان تهجر الملايين من مواطنيها من مدن القناة الى الداخل وان تشطب تلك المدن من حساباتها لتتفرغ لمجابهة الجيش الاسرائيلي بحرية مطلقة ودون ادنى خوف من الانتقام الاسرائيلي واتخذ الاتحاد السوفييتي الصديق موقفا مبدئيا صلبا ونبيلا بإعادة تسليح الجيش المصري بأحدث الاسلحة وبأقصى سرعة ممكنة وبإرسال افواج من الخبراء العسكريين. وبعد ان فعلت الصواريخ المتطورة فعلها وبعد ارتفاع وتيرة تساقط الطائرات الاسرائيلية ووقوع عدد كبير من طياريها اسرى في ايدي الجيش المصري اضطرت ادارة الرئيس الامريكي نيكسون الى تزويد الجيش الاسرائيلي بأجهزة تشويش متطورة جدا لم يستخدمها الجيش الامريكي نفسه حيث كانت آنذاك قيد التجريب في المختبرات واستمرت معركة كسر العظم حتى بلغت اوجها وكان واضحا للجميع ان الكيان الصهيوني بات في طريقه لأن يكون في مهب الريح. في ذروة تلك الفترة وفي ايلول من عام 1970 نشب اخطر قتال بين الاشقاء العرب حين دخل الاردنيون مع اشقائهم الفلسطينيين في حرب عبثية طائشة مجنونة عرفت بمجازر ايلول الاسود والتي كان من نتائجها خروج الفلسطينيين الى جنوب لبنان لتبدأ بعدها مجموعة اخرى من الحروب المجانية المجنونة والتي كان اخطرها الحرب الاهلية اللبنانية التي اندلعت في 13 نيسان 1975 والتي استوجبت حضور القوة العسكرية للجيش السوري المنذور لمجابهة الكيان الصهيوني الذي يعتبر وفق مختلف المعايير العدو الاستراتيجي الاوحد. وفي عام 1970 نفسه وحين شارفت الامور على خواتيمها في مسألة الصراع العربي - الاسرائيلي توفي جمال عبد الناصر ودخلت مصر فترة اكتنفها الغموض من كل جانب وجرت عملية اقصاء مراكز قوى وطنية وعملية ترحيل الخبراء السوفييت. وبما أنه لم يكن بالامكان ايقاف الزخم الهائل الذي راكمه الجيش المصري البطل كان لا بد من قيام حرب تمتص ذلك الزخم وهكذا جرت حرب تشرين (اوكتوبر) عام .1973 ورغم أننا ما زلنا بحاجة الى بضع سنوات او عقود حتى تكشف ال CIA مجمل الاسرار التي احاطت بتلك الفترة والتي حولت حرب تشرين التحريرية الى حرب تحريكية بما في ذلك الزيارات المكوكية لوزير الخارجية الامريكي اليهودي هنري كيسنجر والتي ادت بالنتيجة الى زيارة نيكسون الى مصر والتي أدت الى الزيارة المشؤومة لأنور السادات الى الكيان الصهيوني وإلقائه كلمة في الكنيست والى مجمل اتفاقات كامب ديفيد التي اخرجت الشقيقة الكبرى مصر من ساحة الصراع العربي - الاسرائيلي والتي فرخت مجموعة من الاتفاقات المذلة والمهينة وعلى رأسها اتفاق اوسلو الذي ادى الى بدايات حرب اهلية فلسطينية والى اتفاق وادي عربة الذي كان من نتائجه المهينة سجن ابطال شرفاء غيورين صناديد في سجون وطنهم بعد ان اذاقهم العدو الصهيوني مر العذاب في سجونه. وبسبب احتدام الصراع الايديولوجي الذي كان يحمل شعار المجابهة بين التقدمية والرجعية ومع غياب المفهوم الوطني اغفل التقدميون العرب الدور العربي الحر الاصيل للمغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز الذي تجرأ على مجابهة امريكا باستخدامه لسلاح النفط بعد حرب عام 1973 والذي تعهد بأن يصلي في القدس فكان ان جرى اغتياله فكان ان استمرأ التحالف الامريكي - الصهيوني عملية الاغتيالات من اغتيال الرئيس الامريكي جون كيندي عام 1963 وانتهاء باغتيال ياسر عرفات ورفيق الحريري ومجموعة طويلة من الشخصيات البارزة. في عام 1933 جرى بناء قصر السلام في جنيف وطلب من مختلف الدول الفاعلة آنذاك ان تساهم في بناء ذلك القصر فكان ان ارسل ادولف هتلر مدفعين. وبعد ان جرى استهجان تلك الخطوة قال هتلر: ان المدافع هي خير وسيلة للسلام وعليه ليس من فرصة لنا لخوض معركة السلام ومدافعنا وطائراتنا وصواريخنا مكدسة في المستودعات جراء صفقات تنبعث منها الروائح الكريهة للعمولات او قرارات بتفريغ الجيوش من قدراتها القتالية وابعادها عن الاسهام في المجابهة العسكرية مع الكيان الصهيوني. مشكلة الغالبية العظمى من المسؤولين العرب أنهم لا يقرؤون ولا يستوعبون ولا يتعظون, ففي عام 1938 سافر رئيس الوزراء البريطاني تشمبرلن (1869 - 1940) الى المانيا وعقد مع هتلر اتفاقية ميونخ للسلام وما ان عاد وحطت طائرته في مطار لندن حتى لوح للجماهير بالورقة التي تحمل نص المعاهدة في صورة ارشيفية متداولة ومتكررة جدا وثائقيا لكن هتلر جعله يأكل تلك الورقة حين اكتسح اوروبا وحاصر بريطانيا فكان ان مات قهرا عام .1940 مشكلتنا كعرب اننا لم نستوعب ان معركة السلام بحاجة الى مخالب ونواجذ وأنياب وليس لقفازات بيضاء حضارية وانيقة وانها بحاجة لحزب الله وحماس والجهاد والى مختلف الفصائل المناضلة الشريفة النظيفة والى سورية وايران وفنزويلا ومختلف الدول الصامدة والممانعة والمجابهة للمخطط الامريكي - الاسرائيلي. سألني أحد الاصدقاء المقربين: هل من المعقول ان يحتوي كتاب جدلية الحرب والسلام من ادبيات الرئيس بشار الأسد على اكثر من الف صفحة من الاستشهادات فأجبته قائلا اننا في سورية يا صديقي نفطر ونتغدى ونتعشى ونتسحر على مائدة الحرب, فما زلنا نقاتل منذ قرابة القرن وما زالت ميزانية الدفاع السوري من اعلى ميزانيات العالم بالنسبة للميزانية العامة وما زال شبابنا منذ اكثر من نصف قرن يتعايشون ويكيفون حياتهم ويتأقلمون مع مقتضيات الخدمة الالزامية وان الثقل الاستثنائي الذي تتمتع به سورية ليس بسبب موقعها الاقليمي بل لان قرارها السياسي غير مرتهن للخارج وقرار الحرب ما زال بيدها. لقد تحولنا الى مجتمع حربي شئنا ام ابينا وبتنا مجتمعا شبيها باسبارطة او الفايغنز فبصرف النظر عن الحروب العسكرية فثمة حرب تتعلق بجدلية الداخل والخارج فلا بد من ان نشن حربا ضد الامية بشتى صنوفها وعلى رأسها الامية الحضارية والمعرفية والدينية, وان نشن حربا ضد الارهاب والتشدد والتطرف والاصولية وحربا ضد التخلف والتحجر وحربا ضد الفساد والبيروقراطية والمحسوبية واستغلال السلطة وحربا ...وحربا ...وحربا. في ملف جدلية الحرب والسلام في أدبيات الرئيس بشار الأسد تجمع لدينا حتى الآن 120 صفحة من الشواهد تحت عنوان الحرب و 320 صفحة تحت عنوان السلام و 140 صفحة تحت عنوان الارهاب لكن ما يلفت الانتباه هو عنوان (المبادرة) فمع انه تكرر 184 مرة في ادبيات سيادته الا انه يعكس اجواء الفوضى الضبابية التي تكتنف هذا المصطلح حيث يقول سيادته في افتتاح الدور التشريعي الثامن بتاريخ 11/3/2003 ما يلي: وبعد سنتين ونصف على اندلاع الانتفاضة وسقوط آلاف الشهداء الفلسطينيين ما زال البعض منا يؤيد اية مبادرة مطروحة من دون تحفظ لدرجة انه يقبلها بمجرد قراءة العنوان قبل ان يعرف او يعلن المضمون قبل ان يعرف المسؤول ما هو المضمون? سألنا البعض في بعض الحالات عن المبادرة التي وافقوا عليها فقالوا انهم لا يعرفون ما هي? هم وافقوا وحسب, وفي المقابل فإن الإسرائيليين يرفضون كل مبادراتنا بل يرفضون وجودنا...
|
|