وفي الشرق توجد السواطير وفي الغرب ينام الشهيد على وسادة الدماء ..لا الفرح موجود ولا الطموح موجود .. وحده الشوق الذي لا ينطفئ مع انطفاء الكهرباء يزداد ويتعمق .. فما أن تسيطر العتمة على البيت حتى يطل وجه أمي الذي رحل قبل الأزمة بسنوات .أي عندما كان عندنا كهرباء و ماء و مطر غزير و قمح وفير .. و كان عندنا نفط و قطن و طرقات و مطارات .. كان عندنا بحر هادئ يحكي سيرة حضارة عمرها آلاف السنين، و يقص على الجالسين كيف يصادق المرء بحراً و كيف يرتدي العاشق قميص الموج و يسهر مع مداه و خلانه حتى الصباح . كنا نوزع الآمال و الطموحات على الأيام .. أما اليوم فنحن نوزع صور الشهداء والحكايات الأليمة .. نتدفأ بالحسرة على بلد بنيناه حجراً حجراً و هدمناه بأيدينا حجراً حجراً .. مع ذلك بناء الحجر سهل كما كانت أمي تقول ..لكن بناء المحبة صعب وعسير .
لم أكن افهم مقصد أمي ببناء المحبة .. لكن بعد أن دمر الحقد سورية، أدركت ما معنى أن يتهدم الحب الذي يعني البناء و التسامح و الحلم و الأمل و الرفاهية و الاعتراف بالآخر و بحقه في الحياة على تراب الوطن .. كما يعني التكاتف و التعاون لنصير حزمة العصي التي لا تكسر . لكن أمي ماتت قبل أن تنهدم بروج المحبة و قبل أن نصرف أيامنا في الظلام والانتظار وإقامة خيم العزاء .
و رسالتي الثانية أتمنى أن تصل إلى نهر الفرات الذي شربت من مائه و أكلت من سمكه .. واستمعت إلى أدبائه وشعرائه ..كيف حالك يا صديقي ؟ هل مازال الفرات فراتاً ؟ أم أنت حزين مثلي على فراق جسورك و حقولك و جداولك وتتأسى على الذهب الأبيض الذي كنا نرتديه ونفاخر به ؟ هل يا فرات ما زالت المناسف قائمة وخيام الشعر شامخة بينما العجيلي يكتب نهاية رواية أخيرة في فصل الطوفان ؟
هي رسائل شوق أرسلها إلى صناديق البريد القديمة التي كنت أحفظ أرقامها و عنوان شوارعها .. وكنت أحياناً أزخرفها بالورد أو أرسل موجة من بحرنا في حبرها .. و كم أرسلت من موج و شطآن إلى حلب و حمص و السويداء و الخلان ؟ كم بعثرنا من الشوق على الطرقات بين تدمر ووادي العزيب وجبل البلعاس وسلمية وحماة ..كان العاصي يمر رقيقا» , لم يكن مضمخا» بدم الشهداء .وما كنا نعرف السواطير ولا قطع الرؤوس ..كنا نعرف كيف نقطع المسافات البعيدة بين قلعة سمعان و قلعة صلاح الدين .. ونعرف كيف نقطع التاريخ المزور إلى نتف ونرميه في بردى .. وآه يا بردى ..ماذا أنت فاعل بهذا الجفاف ؟ لا المطر يأتي ولا الأحبة يرجعون، و لا ضفافك تنشد أرقّ الأرقّ من ديباج الكلام .. أيا بردى ..على جسورك السلام ..والسلام على قاسيون يرفرف فيه العلم الخفاق المحمر من دم الشهداء .
والسلام على الذين كانوا يسهرون في اللاذقية وينامون في الشام ..هل يقدر الكلام أن يلمنا من جديد ؟
هل تقدر الرسائل أن تعبر السواطير و تمشي في دمشق القديمة وهمس الياسمين على أكتاف الذكريات يتدلى ؟ هل ضاعت العناوين ؟
هل سنمزق الرسائل التي كتبناها ؟ أم نعرف سلفاً أنها لن تصل إلى أصحابها ؟ لأن البلاد تقطعت .. والطرقات تمذهبت أو لأن أصحابها غيروا عناوينهم وقبعوا في العزلة أو ناموا في الخوف أو وقفوا على التلة العالية ..؟
أجل ..قد لا تصل الرسائل ..لكني سأكتبها بقلم الحبر الذي لا أفارقه، فأنا لن أرسلها بالبريد الإلكتروني، لأنه بريد بارد وخال من العواطف ومن تفاصيل الحياة الجياشة بل سأكتب بيدي، لأن خطنا يدل علينا ويحمل رائحتنا ونبرتنا و بعض ملامحنا و الكثير من خصوصيتنا .. مع ذلك لابد من إرسال رسائل شوق إلى الشهداء عبر البريد الإلكتروني لعلهم ذات يوم يتصفحون هذا العالم، وهم في عليائهم فيجدون رسائل الشوق و يجدون أننا لن ننساهم .. صحيح أن العناوين ضاعت .. لكن عنوانهم الكبير- سورية - مازال في قلوبنا محفوظاً إلى الأبد .
هي رسائل شوق لولا الحقد لما تأخر وصولها مع ذلك ستصل ذات زمن قريب و سيرد الذين مازال في أعماقهم بقايا حب ّو بقايا وطن .