تلك الثورة التي اعتمدت سياسة استقلالية تحفظ السيادة الوطنية والقرار المستقل لإيران بعيداً عن إملاء أو ارتهان للخارج شرقاً أو غرباً حيث كان شعار الجمهورية الناشئة «لا شرقية ولا غربية» هو القاعدة الاساس التي تعلو كل القواعد والاتفاقات التي تحكم السياسات الإيرانية والعلاقات الدولية التي تكون إيران طرفاً فيها.
وفي المجال النووي الذي يعتبر الخوض فيه بطريقة علمية بحثية ممارسة لحق طبيعي اكدت عليه قواعد القانون الدولي وكرسته كحق قانوني ، سلكت إيران الطريق من اجل توفير مصادر الطاقة والاستفادة من تقنياته سبلاً لحل المعضلات التي تواجه خبراءها في مجالات الطب والزراعة والبيئة وغيرها من مجالات الاستعمال المدني الحضاري، ولكنها ما إن خطت خطواتها الاولى في هذا الطريق حتى ووجهت برفض من قبل مجموعة دول المنتصرين في الحرب العالمية الثانية الذين اقاموا الاطر والمنظومات الدولية التي تؤمن لهم احتكار القوة ومصادرها من اجل المحافظة على مكتسبات نتائج تلك الحرب التي اقامتهم حكاماً للعالم.
وهنا كان التدخل والملاحقة الدولية الاستعمارية والحصار لإيران لتخييرها بين امرين: التخلي عن سياسة الاستقلال والسيادة الوطنية والانخراط في مجموعة حراس المصالح الغربية في الشرق وعندها يسمح لها وتحت اشراف تلك الدول السير في الطريق النووي كما تحتاج ويقدر الغرب حاجتها، أو أنها تحاصر وتكون عرضة لاشد أنواع العقوبات بما في ذلك العسكرية عبر حروب تشن عليها لترويضها وثنيها عن مشروعها.
لقد وازنت إيران بين الخيارين المطروحين عليها واختارت الثاني وهي الطريق التي توصف بالفقه الإسلامي الصحيح الذي تعتمده إيران أساساً لسياساتها، توصف بأنها «طريق ذات الشوكة» وهي طريق المتمسكين بحقوقهم أولاً والمستعدين لتحمل المصاعب وتقديم التضحيات في سبيل المحافظة على تلك الحقوق، وبدأت المواجهة بين إيران المستقلة ودول الغرب الاستعماري، الذي ظن ان احتواء إيران هو أمر مسلم به وأن المسألة مسألة وقت.
لكن إيران خيبت آمال المراهنين على انكسارها وخضوعها، وصمدت وقاومت ولم تكتف بانها ثابرت على عملها البحثي واستمرت في التقدم العلمي في المجال النووي بل إنها بقيت وفية لالتزامتها الوطنية الاقليمية والدولية وواجهت الغرب أيضاً في أخطر وأهم قضية تعنيه وهي قضية فلسطين وانفردت من بين دول المعمورة كلها بوصف إسرائيل بانها «غدة سرطانية» واجبة الاقتلاع، بمعنى ان إيران رغم ما مورس ضدها، لم تهادن في ملفات كبرى أخرى، بل فعلت مواقفها النظرية ونزلت بها الى الميدان العملي فكانت السند والداعم القوي لحركات المقاومة العاملة ضد إسرائيل من أجل استنقاذ الحقوق العربية والإسلامية في فلسطين، وانتظمت في حلف استراتيجي متين مع سورية حيث يقوم النظام الرسمي العربي الوحيد الذي لم يوقع صلحاً مع إسرائيل ولم يبد أي استعداد للتنازل عن حبة تراب من الأرض العربية.
لقد صمدت إيران بوجه أعتى أنواع العقوبات الاقتصاية التي مست في كثير من الاحيان مصالح الشعب الإيراني وضيقت عليه في اكثر من ناحية، ثم إنها وبذكاء وثقة، حولت بعض تلك الضغوط الى فرصة للتقدم ونجحت في ذلك على اكثر من صعيد سواء كان نووياً أو عسكرياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، ولكن لم تستطع ان تسقط مفاعيل العقوبات اسقاطا كليا بالتدابير الي اتخذتها بل بقي لتلك العقوبات أثر وألم تحدثه في الجسم الإيراني بطريقة اواخرى وهنا مارست إيران وشعبها سياسة الصبر والتحمل والمقاومة وكانت مؤمنة بأن هذا الأمر سيجد نهايته في لحظة معينة وأن استمرار الحال على حاله محال وأنه سيأتي الوقت الذي تضطر فيه دول الاستعمار المعتدية على الحقوق الإيرانية للتراجع عن ذلك عندما تقف على حقيقة الصلابة الإيرانية في المواجهة وعدم التنازل أو التراجع بل السير قدماً من غير اكتراث بالضغوط وعندها تتحول العقوبات عبئاً على أصحابها وتكون مصالحهم في التراجع.
وبعد 10 سنوات من المواجهة القاسية ومرحلة تاريخية حساسة حلت تلك اللحظة المتوقعة التي كانت إيران تنتظرها من أجل أن تفرض على دول الاستعمار الاعتراف بالحقوق النووية الإيرانية من غير أن يقابل ذلك تنازل إيراني في ملفات اخرى. لحظة شكلتها عوامل متعددة بدءا من الهزيمة الاستراتيجية التي حلت بقوى العدوان على سورية القلعة الوسطى من قلاع محور المقاومة وصولا الى التحضير الاميركي للانسحاب من افغانستان، وبات الاتفاق الدولي مع إيران ضرورة لأميركا والاطلسي، وكنا على يقين ان اميركا بحاجة الى مثل هذا الاتفاق قبل حلول الايام الاولى من العام 2014 وهوعام الانسحاب من أفغانستان وعام تكريس انتصار سورية في مواجهة العدوان كما بات واضحاً.
... لهذه الضرورات سقطت المحظورات الغربية واعترف الغرب بالحق الإيراني بامتلاك التقنية النووية وفي طليعة ذلك حقها بالتخصيب النووي وعلى اراضيها الى اعلى نسبة يستلزمها الاستعمال السلمي المدني اي التخصيب بنسبة 5% وهوما كانت إيران قد بلغته ومارسته في السنوات الاخيرة اثناء الحصار. وفي المقابل وافقت إيران على الامتناع عن اي اجراء اوتدبير يمكن ان يقودها الى تصنيع القنبلة النووية اوامتلاك السلاح النووي مع ما يستتبعه بتمكين المنظمات الدولية من التحقق الدائم وبشكل فجائي من وفائها بالتزامها هذا. يترافق ذلك مع تراجع تدريجي عن العقوبات المفروضة على إيران دولياً أو إفرادياً من قبل بعض دول الغرب.
إذن هذا أهم ما في الاتفاق النووي السلمي باركانه الأربعة اعتراف دولي بحق إيران النووي، ومتابعة إيران مسيرتها النووية من حيث وصلت، وتعهد إيران بعدم تصنيع القنبلة النووية، وتراجع غربي دولي عن العقوبات المفروضة على إيران.
بالنتيجة يعتبر هذا الاتفاق ببساطة كلية انتصاراً لإيران من طبيعة استراتيجية عليا لانه دشن مرحلة جديدة في العلاقات الدولية يبنى عليها لمصلحة دول خارج نادي الدول العظمى. ولهذا سيكون لهذا الاتفاق آثار وتداعيات على اكثر من صعيد في مسار العلاقات الدولية منها:
1) ارساء قاعدة جديدة في العلاقات الدولية مضمونها ان «الدول هي التي ترسم حدود حقوقها ومصالحها» أولاً والعالم يعترف لها بذلك ان امتلكت القوة في فرض هذا الامر حتى ولو كانت خارج نادي المنتصرين في الحرب الثانية، وهنا يجب ان ننوه بأن الاتفاق لم ينشئ حقا لإيران بل اعترف بهذا الحق وهو أمر بالغ الاهمية....
2) سيشكل الاتفاق أنموذجاً يحتذى من قبل الدول التي لا ترضى بالتنازل عن سيادتها وتطمح بالحصول على حقوقها من غير تبعية أو ارتهان بعد ان تم التأكيد على فعالية المقاومة والتحمل والصبر ليس لتحرير الأرض وطرد المحتل منها فحسب بل ايضا لانتزاع الحقوق وفرضها على الآخرين.
3) سيشكل الاتفاق مدماكاً جديداً في صرح انتصارات المقاومة ومحورها بدءاً من العام 2000 وستضاف سنة 2013 الى السجل الذهبي لمحور المقاومة الذي واجه الغطرسة الغربية منفردا لثلاثة عقود خلت وتمكن من تحرير أرض احتلتها إسرائيل أو أميركا، ويضيف الاتفاق النووي الإيراني الدولي هذا انتصارا استراتيجيا هاما من الطبيعة التي يبنى عليها وتتحكم بالحركة الدولية المستقبلية.
4) شكل الاتفاق صفعة ثانية لادوات اميركا في المنطقة وعملائها، إذ بعد التراجع عن تهديدها بالعدوان العسكري على سورية، تأتي هذه اللكمة القوية وتسقط التهديدات العسكرية الغربية ضد إيران ولهذا تستشيط إسرائيل والسعودية غيظاً وغضبا ورفضا لهذا الاتفاق الذي حصن مواقع إيران الاقليمية والدولية وأطلق يدها في العمل على المسرح الاقليمي. نقول ذلك دون ان نغفل حقيقة هامة هي ان إيران كانت جاهزة للدفاع عن نفسها وكانت قد امتلكت من القوة ما يدخل الطمأنية الى صدرها، ولكن يبقى تحقيق المصالح سلماً افضل من فرضها حرباً.
5) أسقط الاتفاق من يد الغرب ورقة ابتزاز هامة كان يستعملها ضد إيران من اجل ملفات اخرى وكما ان التخلي عن السلاح الكيماوي السوري طوعا جرد الغرب من ورقة ابتزاز كانت تلعب ضد الحكومة السورية جاء الاتفاق النووي ليجرده ايضا من ورقة ابتزاز اخرى ضد مكون آخر من مكونات محور المقاومة.
6) اكدت إيران في الاتفاق على حقوقها ولم تخسر شيئاً في المقابل لان تعهدها بعدم تصنيع السلاح النووي لا يعد تنازلا لانها ومن نواح عدة لم تكن في صدد هذا التصنيع وانها ليست بحاجة للقنبلة النووية اصلا.
7) يعتبر الاتفاق اعترافاً ضمنياً من قبل الغرب الذي يقود العدوان على سورية بفشل عدوانه اذ لو كان يأمل بعد بنجاح ما لما كان اقدم على «اتفاق الضرورة والمصلحة» هذا ولما كان التنازل أمام إيران بعد 10 سنوات من الرفض والضغوط، لأنه من المنطق ان يتصور ان بإمكانه الحصول على أكثر في إيران فيما لو انتصر في سورية.
8) سيشكل الاتفاق قاعدة متينة للسير قدما في المواحهة القائمة على الأرض السورية وسيؤكد الانتصار الاستراتيجي الذي حققه محور المقاومة هناك والذي يعتبر الاتفاق وجها من وجوهه، وسيسرع كثيرا في تحقيق الانتصار العملاني الميداني تطهيرا للأرض السورية من الارهاب واستعادة للاستقرار.