ولا تزال الرواية تحظى بالنصيب الأكبر مما يطبعه الناشر، ويحتفي به، بل ويروج له وخاصة بعد أن انتشرت ظاهرة حفلات التواقيع، بغض النظر عن القيمة الفنية الحقيقية للنص، صحيح أن شبكة المعلومات تغرق الدنيا بالكتب لمن أراد، ولكن يبقى للكتاب الورقي سمعته العالية، وقيمته الكبيرة.
ولما كان الناس يتبعون بعضهم بعضاً في بعض مظاهر السلوك كاتباع (الموضة) مثلاً فإنهم بالتالي يتأثرون بالدعاية ليتفاعلوا معها إيجاباً، وكأنهم بذلك يقومون بحملة ترويج لما أريد له الذيوع والشيوع. فإذا بكتاب ما ينفرد دون سواه بالانتشار محققاً أعلى نسبة مبيعات، وأكبر عدد من القراء، ولو كان المضمون لا يرتقي الى ما يمكن أن نطلق عليه تسمية الكتاب الجيد، حتى أصبح هذا الأمر ظاهرة تتكرر في أغلب معارض الكتب، كما لو أنه هذا هو المعيار لنجاح الكتاب مع مؤلفه، وقد تُفرد المساحات الإعلامية لتسليط الأضواء على هذا الكتاب أو ذاك، أو ذلك الكاتب أو سواه في احتفاء واحتفال، وكأن هذه المظاهر جميعاً قد حسمت الموقف لصالح كتاب ما على أنه الأجود، والأفضل، وربما الفائز بلقب كتاب العام. واذا ما أحدث الكتاب ضجة رقابية ما فإن الجميع يندفع لاقتنائه، وكأن الأمر عدوى، أو ما شابه، وليس بحثاً جدياً عن مضمون كتاب جيد يقف مصداً في وجه حالة التردي الثقافي إذا ما انتشرت.. والتي تعوق بدورها مسيرة التطور.
وقد شهدت معارض الكتب في العام الفائت تلك الظواهر وبحدة، وخاصة بين فئة المراهقين والشباب الذين اندفعوا تحت تأثير الدعاية حتى كادت أروقة المعرض تغص بطوابير ممن وقفوا لساعات وهم يتدافعون ليفوزوا بكتاب يحمل توقيع صاحبه، بعد أن يكونوا طبعاً قد سددوا ثمنه.
إلا أن ظاهرة أخرى أصبحنا نلحظها أيضاً في تلك المعارض قد تناقض الهدف الأساس لأي معرض ألا وهو النهوض بالثقافة فإذا بالكتاب الهابط يتواجد الى جانب الكتاب الجاد والهادف حتى كاد أن يزاحمه، بل وقد يحل مكانه أحياناً، وخاصة بعد أن ظهر ما يسمى بالأدب العامي أي المكتوب باللغة المحكية، أو العامية، ومقصده الرواية التي تغص بقصص الحب والإثارة، أو مما هو متداول عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبح الشباب يقبلون عليه باندفاع كافٍ لأن يصرفهم عن روائع الأدب، وهو ما بات يشكل ثقافة جديدة أخذت تسري في عروق المجتمعات الشابة بعد أن غزت سوق الكتاب. ومقابل كل كتاب رديء يحتفى به يغيب كتاب جيد كان من الأجدر أن يكون الاحتفاء له.
وكلما كثر العارضون من دور النشر، وتعددت أسماء الدول المشاركة كلما اكتسب المعرض قيمة أكبر، وسمعة أوسع.. وإذا كانت معارض الكتب الى جانب الناشر الخاص، مع المؤسسات الثقافية تقوم جميعاً على مهمة نشر الفكر والثقافة، وخلق الفرص لالتقاء الجمهور مع النخب من كبار الأدباء، والمثقفين، والمفكرين من خلال الندوات، والمحاضرات، والأمسيات الشعرية، ويضاف اليها المعارض التشكيلية، وعروض السينما والموسيقا، والمسرح، وفعاليات خاصة بالطفولة كورشات الرسم، والكتابة، والقراءة.. فإن كل ذلك لا يشفع للعناوين المثيرة ودون مضمون متمثلة بكتاب رديء لأن يبرز هذا الكتاب من بين الكتب الجيدة حتى يحظى بفرصة حقيقية للاحتفاء والتسويق تعود بالتالي على ناشره، وكاتبه بمردود مادي قد لا يستهان به، ودون حساب لإفساد ذائقة القارئ. أما الروايات الهابطة فتلك لها شأن آخر لا تحده أسوار المعارض، ولا مواقيتها، ولا حدود أجنحتها.
وكما العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة كذلك هو حال ذلك الكتاب الرديء الذي يفسد رسالة الفكر والفن وهو يتصدر منابر معارض الكتب، بينما الغاية الأساسية لرسالة النشر عموماً، ولإيجاد مثل هذه المنابر هي تشكيل الوعي الثقافي والفكري للمجتمع، والارتقاء بالمتلقي.. فكيف إذاً سيكون الضبط لأنغام نشاز وهي تصدح داخل الجوقة؟ وأكثر ما يقلقنا هو ما يقدم للأطفال من إصدارات يتفوق فيها الشكل على المضمون، والخيارات فيها كثيرة، ومتنوعة، وقد لا تكون هي الأصلح، والأفضل.. فماذا نقول فيها بعد أن أصبح الكتاب صناعة رائجة لها زبائنها.. والمعارض هدفها لضمان تسويقها؟
لكن في حقيقة الأمر أن الفرز الصحيح، والتقييم الواقعي، والأمثل هو ما يقوم به الجمهور.. فضمير الأمة دوماً هو الذي يعي حقيقة الأشياء، وهو الذي يقرر، والذي يحقق.
ومع اقتراب موعد واحد من أهم معارض الكتب العربية والذي يحظى عادة بأكبر نسبة زائرين ألا وهو معرض القاهرة الدولي للكتاب، والذي هو بمثابة عيد أو تظاهرة ثقافية تحتضن كل صنوف الإبداع فإننا نقف بالأبواب العريضة لنشهد ظواهر جديدة قديمة، أو ربما ظواهر جديدة أخرى قد تباغتنا، أو تفاجئنا دون أن ترحمنا.