وصلت والشمس في عز الظهيرة، الحر شديد.. وليس من السهل أن تجد مكاناً لحافلتك. يومها كان المكان كاراجاً للعربات الكبيرة التي تغادر المدينة أو تعود إليها ولم أكن معنياً بأكثر من قراءة المدينة التي وصلتها لأول مرة في حياتي، وكل ذهني محصور في البحث عن «شامة الدنيا» كما يطلقون عليها إعجاباً أهل قريتنا.
صوت المدافع الذي يصلني يثير فيّ هلع و تشنج لم تفعله تلك الضوضاء التي كانت في كراجات الحجاز للعربات الكبيرة في غزوتي الأولى للمدينة! أصوات سائقي العربات الصغيرة «التكسي» ينادون بجهد واضح لاصطياد من تلزمه حمولته إلى مغامرة دفع ليرة أو ليرتان للتكسي، حيث موقف الباص المرغوب المحبوب دائماً بعيد على حامل يتعثر بعشرات الكيلو غرامات من مواد الحياة الغذائية المنوعة وغيرها مما قد يوفر حمله من محافظة إلى أخرى قروشاً تفيد. حتى القروش كانت مفيدة.؟! يمكن أن تنمو بهدؤ كما المدينة.. لاشيء يهدد نموها الهادئ، إلا تلك المغامرة المستمرة لتسريع النمو كما يرى أبطالها المغامرين الغر الميامين.. حسني الزعيم.. سامي الحناوي... أديب الشيشكلي... شكري القوتلي...جمال عبد الناصر ومعه وقبله عبد الحميد السراج.. عبد الكريم النحلاوي و غيرهم كثيرون.. وتتالت فصول الحكاية وتتالى أبطالها.. ولاأحد يسمع أنين المدينة وهي تتخلى عن حمولات حملها التاريخ كي تستطيع اللحاق بالركب وماأجتهد غير عابئ بتاريخ أو جغرافيا.
عندما وصلتها أول مرة كانت أصوات المدافع قد خبت. والتمت المدينة على جراحها في مواقع ومبانٍ خربة. لكن لم يكن لذلك كله أن يقلل من جمالها. اليوم لا تترك لك أصوات المدفعية و أخبار السيارات المفخخة وقذائف الهاون أن تكمل محاولة بحث تطل من بين الهواجس، عن جمال المدينة و لو اتشح بالحزن العميق.
قدت السيارة إلى تجمع عربات يبدو كأنه مرآب، على مدخله قرأت لوحة تقول الساعة بخمسين ليرة. ركنت سيارتي وحادثت خازن المرآب عن الأسعار، فقال لي: يا أستاذ بعدنا بالأسهل.
قلت: كل هذا وبعدنا بالأسهل ؟!
قال: نعم.. و تابع.. القلوب لم يعد فيها رحمة..
قلت: شو دخل رحمة القلوب باجرة المرآب ؟!
قال: أتراها قضية مرآب و وقوف سيارة ؟! ألا تسمع... إنهم لايتركون الرحمة تعمر في النفوس... البلد لم يعد فيها رحمة.... كانت حياتنا جميلة يوم كانت الرحمة تسود بيننا ومن يوم فقدنا الرحمة ورثنا الجنون.
سمعت أنين المدينة... هذه المرة النغمة مختلفة... دائماً تعرضت دمشق للأنين و دائماً كانت مدينة جميلة... هل تفقد المدينة جمالها؟!
as.abboud@gmail.com