والإنسان المصري البسيط العامل يوجد مسرعاً ومخلصاً في شؤونه مهما صغرت. يا الله كم ترف في خاطري الغوطة في أيار أو نوار وهي تشتعل بأزهار اللوز والمشمش والتفاح، وتظللها غيوم بيضاء من السحر والجمال، ويهفو الى خاطري قول شوقي: قد يهون العمر إلا ساعة/ وتهون الأرض إلا موضعا
أما آثار الحرائق من حولي في كنائس ومؤسسات فهذا ما كان يوجعني.. ورصاص لا يعرف هدفه ينطلق بين لحظة وأخرى يبحث عمن يصيبه. فما هذا الذي تنتجه إذن ثورة هادئة نسبياً ومسالمة إذا كانت براثن الفتنة تمتد إليها لتحرق وتدمر وتروع الناس؟ لماذا ينقلبون من إخوة في لغة الضاد الى لغة الأضداد؟ ولماذا تطل أسباب الفتنة برؤوسها الشيطانية هنا وهناك في الوطن العربي لتفرق ما هو مفرق، ولتدمر ما لم ينشأ بعد لتجعل الإنسان العربي خائفاً مذعوراً لا يصدق أن يحصل على أمنه وأمانه، ورزق أسرته وعياله وكأنه بينما ترصده عيون الاستعمار الوحشي يحاول أن يجد مخبأ من هذا الذي يداوره ويفاجئه تحت سماء مكشوفة وشمس ساطعة. ليس الأمر إلا هكذا وأسوأ في بلاد عربية أخرى.. إذ بينما كانت في الأسابيع الماضية كما أشرت تتخاطب بلغة الضاد سيدة الموقف فإذا بها تتراشق بلغة الأضداد.. فماذا يعني أن واحداً من اتجاه وآخر من اتجاه غيره مادام أهل البلاد جميعاً هم أصحاب الحقوق في الأرض والمستقبل وتقرير المصير على حد سواء.. وهم الذين يبنون أوطانهم سواء كانوا في أكواخ وبيوت متواضعة أم في قصور ذات أبهة وروعة.. لكن الشروط على ما يبدو لم تعد متوفرة في أن يضع كل أحد نفسه في موضعه فلا تمتد يده الى أذى غيره أو التسلط عليه.
وكما أن الشعوب تتوجه جملة واحدة الى ما فيه خيرها ونماؤها ومستقبلها فهي أيضاً تتوجه بجموع أكثر، وباندفاع أكبر الى ما فيه أذاها وخرابها، وتنافر أهلها الى حد العداء وسفك الدماء. لغة الأضداد هذه لم نكن نعرفها في بلادنا العربية قبل أن تزلزل الأرض تحت أقدامنا فيما يسمى مشروع الشرق الأوسط الجديد.. الغامض والمهدد لكل جيل جديد من أجيالنا. وكأنهم لم يكتفوا بنهب ثرواتنا والإفادة من مواقعنا الجغرافية، والتاريخية الحضارية فإذا بهم يريدون أن يقرروا مصائرنا، وأن يعبثوا بأوطاننا تقسيماً بل تمزيقاً من خلال الصراعات الدامية، والفظائع التي تدمر نهجنا بل شخصيتنا قبل أن تدمر ما بنيناه خلال عقود أو قرون.
أما ما بين لغة الضاد.. ولغة الأضداد فهي تلك الأخبار المصورة التي بثها الإعلام العالمي وللأسف بعض الإعلام العربي في مشهديّ مفارقة تدمى لها القلوب عندما أبرزوا صور الصراعات والنزاعات في بلادنا بينما الإسرائيليون يحتفلون بما يزعمون أنها أعياد الحرية والاستقلال، وهم يغنون، وينشدون وكأن مظلة خفية من الأمن والأمان قد ارتفعت فوق رؤوسهم حتى شقت أصواتهم عنان السماء بتلك اللغة التي يعتبرونها اللغة الأساس منذ عهد السامري ولا مساس. أي مفارقة جارحة ومؤلمة حتى العظم أن تبث الشاشات العربية مثل هذه المشاهد وكأننا نحن الغاصبون وليس المغتَصبون.. وكأننا نحن الذين تضيق بنا الأرض فنسعى الى توسيعها وليسوا هم الذين توصلوا إليها بالمؤامرات والفتن وحتى بالتغلغل في النفوس الضعيفة من بعضنا.. يظهرون فيها خداع الذئب للحمل ليفترسه على مهل وليس على عجل.
وإذا كنا ندفع ثمن التكنولوجيا الحضارية من الجوال والكمبيوتر من جهدنا وعرقنا وأقواتنا إلا أننا لسنا بحاجة لأن نكون أداة طيعة في أيدي الاستعمار الغربي الشرس لكي يوجهنا كما يريد.. ومن خلال مؤسسات شبكاته الفضائية باسم التواصل الاجتماعي. كما أننا لسنا بحاجة الى تقارير غامضة ومبهمة كالتي تصدرها مؤسسات إحصاء أو تختفي وراء أسماء كما (ويكيليكس) وسواها.. وإذا كان علينا أن نقرر مستقبلنا ومصيرنا، وأن نرسم أقدارنا بثقة وأمل وتفاؤل فلنكن صادقين مع أنفسنا أولاً.. ومستقلين بأفكارنا وصور المستقبل ثانياً.
وأتساءل: هل من لغة أخرى ستهبط علينا بين لحظة وأخرى؟