فتأتي الأزمات لتضعها على المحك، وفي مخبر التحليل ومن حيث المبدأ لا يمكن لأحد إنكار أن العلاقات بين الدول تتأسس على رافعة المصالح والمنافع المتبادلة ودرجة الترابط والتفاعل بين القوى المكونة لها، ولكن ذلك لا يلغي حقيقة أن ثمة مساحة من الحدود الأخلاقية والوجدانية يجب أن تجد صدى في البنية المؤسسة لها، ما يرتب على مجمل أطرافها سواءً كانوا قادة أم مؤسسات درجة من المسؤولية حال التحلل منها أو التنكر لموجباتها،.وفي مسار الدول والأشخاص محطات ومواقف وظروف بقدر ما هي صعبة ومكلفة إلا أنها تعطي فرصاً حقيقية للمراجعة الداخلية والخارجية، إضافة إلى أنها تشكل اختباراً وطنياً ضرورياً يتبين فيه الغث من السمين وفي إطار العلاقة مع الآخر المبدئي والانتهازي المصلحي والمراوغ من الحليف والصديق المخلص.
وهنا تبرز الحاجة إلى تأكيد حقيقة أن العلاقات بين الدول يجب ألا تبنى على معطيات عاطفية أو علاقات ذات طابع شخصي إلا كمدخل فقط وضرورة الندية الكاملة في متقابلاتها، بحيث لا يستطيع أي كان سواءً فرداً أم جماعة أم بنية سياسية قلب الطاولة أو التنكر لها في لحظة قد تكون عصيبة وربما قاتلة لإدراكه الثمن والتكلفة الباهظة المترتبة جراء ذلك.
إن نظرة لما يجري في عالم اليوم أو ما يمكن تسميته لعبة الدول والحكومة العالمية، يؤكد حقيقة أن قواعد المكيافيلية ما زالت هي الأكثر حضوراً في جوهر كل ما تشهده الساحة العالمية من تحولات بنيوية وخرائط جديدة تتشكل على قواعد لم يألفها البعض أو يستوعبها لقصور في رؤيته أو لكونه وضع خارج سياقاتها أساساً.؟
إن الحديث عن عالم سياسة تحكمه العدالة والأخلاق والقيم يبدو مع الأسف وكأنه تسويق لبضاعة كاسدة في عالم ثقافة البزنس والصفقات السياسية، وهذا يستوجب المزيد من الحذر والمعرفة الحقيقية بالآخر الذي قد يتسربل بأكثر من وشاح ويضع أكثر من قناع بهدف الخداع والتسلل والتموضع في أولويات من تعامل معه صديقاً أو حليفاً. وعالم اليوم في مشهده السياسي المرتبك والمخزي , لايحرمنا القول والتأكيد أن عالماً من دون أخلاق هو عالم غير جدير بالحياة، ولو أن الحياة البشرية تأسست على المنافع والمصالح والخداع لما وجد في التاريخ البشري رسل وشهداء ومناضلون وقادة وأبطال ضحوا من أجل المبادئ التي آمنوا بها فاستحقوا شرف الخلود وشكلوا نبراس هداية ومثلاً أعلى للبشرية في مسيرتها الانسانية الخالدة، والذاكرة الجماعية للبشرية تعج بأسماء كثيرة كانت الملهم لها في سعيها من أجل الحرية والكرامة.
لقد كانت سورية وفي ظل قيادة السيد الرئيس بشار الأسد الرائدة في تكريس نهج المبادئ والقيم في علاقتها مع الدول العربية ودول الجوار الإقليمي وكل من مد يد الصداقة إليها، وهي في ذلك منسجمة مع نفسها وأصالة شعبها وتكوينها الحضاري وإرثها السياسي الذي تعتز وتفتخر به على الرغم من أنها دفعت ثمناً غالياً من دماء أبناء شعبها ثمناً لذلك، ولكنها لم تساوم على صداقة أو تتاجر بمبدأ أو تفرط بصديق تحت كل الظروف والمغريات حتى عندما كانت تحت القصف والتهديد والوعيد، في الوقت الذي تحول البعض فيه إلى تجار مواقف وسماسرة صفقات سياسية بهدف الحصول على شهادة حسن سلوك من أولئك الذين أمعنوا في جرائمهم ومؤامراتهم بحق أبناء الأمة العربية وعلى مدى عقود طويلة.
لقد كشفت المحنة التي مرت بها سورية وتجاوزتها بأصالة شعبها وقوة وعزيمة قائدها وبسالة قواتها المسلحة ومساندة الأصدقاء المخلصين لها، أنها أقوى من كل المؤامرات والدسائس وتمتلك كل أوراق القوة والقدرة على تسمية الأشياء بمسمياتها وأنها ليست في جيب أحد، وإذا كانت قد مدت يد الصداقة لشقيق أو صديق فإنها في الوقت نفسه وتحت كل الظروف قادرة على تعريته وكشف كل عوراته السياسية ، والأكثر من ذلك قلب الطاولة عليه، فالشأن السوري الداخلي وطريقة التعاطي معه خط أحمر لا يسمح لأي كان التدخل فيه أو تحديد خياراته، وهي ليست بحاجة لناصح أو واعظ أو من يقدم لها الأمثولة في الوطنية، والكل يعلم سواء كان في دائرة الأصدقاء أم الأعداء أنها النموذج في القرار الوطني المستقل.
إن ما مكن سورية من الانتصار في هذا الاختبار التاريخي المصيري هو تشخيصها الدقيق للموقف وتعاطيها مع مكونات المشهد الكلي بما يستوجبه من معالجة في جزئياته عبر تفكيكه إلى مقاطع صغيرة، فالتفاعل الايجابي مع مطالب الإصلاح ونقد الذات والإقرار بالتقصير في جوانب كثيرة في الأداء العام لجهة تعزيز المسار الديمقراطي الداخلي وتوسيع المشترك السياسي وتعميق مفهوم المواطنة وتحسين الشروط الوطنية الأخرى والانطلاق في برنامج إصلاحي واسع الطيف، نزع الورقة الرئيسية من أيدي أولئك الذين حاولوا استعمالها لتحريك الشارع السوري عبر العزف على أوتار -ظناً منهم-أنهاتجد صدى واستجابة لدى شرائح واسعة منه، أما العنصر الآخر في النجاح فهو المواجهة الشجاعة والتصدي للقوى الخارجية التي أرادت التسلل للداخل السوري عبر لافتة الإصلاح وعدم السماح لأي كان العبث بالورقة الداخلية التي هي الأساس في قوة ومتانة الموقف السياسي السوري، ويبقى العنصر الحاسم في كل ما جرى هو حالة التماسك الرائعة بين الشعب والجيش ومؤسسات الدولة بكل تشكيلاتها والتفاف الشعب السوري الأصيل حول السيد الرئيس بشار الأسد في لحظة اختبار وطني ، عكست أصالة وعراقة ووفاء هذا الشعب.
khalaf.almuftah@gmail.com