تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


بانتظار ألّا ننتظر

معاً على الطريق
الإثنين 24-11-2014
أنيسة عبود

بانتظار الكهرباء لكي أكتب مقالتي.

بانتظار الكهرباء كي أضيء أفكاري وأرتب تعاريج دماغي المتعب.‏

بانتظار الماء كي نشرب.. بانتظار الأمان كي نسافر للأحباب.‏

بانتظار الأسعار أن تخفف من غليانها وغلوائها كي لا نجوع..‏

بانتظار التجار أن يشبعوا ويعلنوا الاكتفاء من سرقة العباد وغش السلع الغذائية والدوائية والأخلاقية بعد أن صارت الأخلاق سلعة في سوق الدولار اللعين.‏

بانتظار المازوت كي يتدفأ الأطفال الذين ازرقت وجوههم الشاحبة.‏

بانتظار المطر كي لا تنقطع المياه عدة أشهر عن بعض القرى.‏

بانتظار أن نرى أنفسنا في المرايا.. أو نرى غيرنا يبتسم في وجوهنا.‏

غاضبون جميعاً.. ناقمون.. حزينون.. ننفض ثيابنا من القهر كل مساء ألف مرة.. ننام على انتظار الضوء والهاتف والانترنت.. نصحو على العتمة والبرد والغلاء والقهر الجديد.‏

نعم.. نحن بانتظار دائم.. ممل.. قاهر.. ننتظر أن تعود سورية إلى قلوبنا كي نعود نحن إلى وطننا.. مهجرون ونحن في بيوتنا.. مهجَّرون داخل أرواحنا وداخل أصواتنا.. ماذا ننتظر؟ وماذا لا ننتظر؟‏

يهرب العمر من أمامنا ونحن نراقبه وننتظر.. نبدأ كتابة يوم جديد وننتظر.. أما تعب الانتظار منا ونحن نمنّي النفس بيوم قريب نعود فيه إلى حياتنا التي ضيَّعها وشتتها (طلاب الديمقراطية الأميركية)؟‏

نقف على بوابات بيع الغاز.. يشتمنا الموظف وننتظر.. يسرقنا موظفو القطاع العام والخاص وننتظر.. ندفع للسماسرة ما يريدون وننتظر..‏

أما على باب الفرن فالانتظار من نوع آخر.. وعلى باب المؤسسات التموينية الانتظار مختلف جداً.. بطاقات في الأرض.. ورؤوس في الأرض.. زحمة الحياة تشبه زحمة كوى البيع الضيقة القاسية، الشرسة أكثر من صوت الموظفات المدعومات اللواتي ينظرن شزراً وهن يعطين السلعة وكأنهن يعطينها من مال آبائهن.. مع ذلك عليك أن تنتظر.‏

الانتظار..؟‏

الانتظار الذي كان ممتعاً وشاعرياً بانتظار الغائبين.. أو في محطات السفر.. أو بانتظار هاتف يرن.. أو نافذة - يخربش عليها ورد الجيران -.. تغير وصار انتظاراً للقمة العيش.. للضوء.. للدفء؟ للأمان.. للماء.. للرأفة.. صار الانتظار مذلاً وذليلاً.. ونحن الكتّاب.. لم نعد قادرين على الكتابة عنه بلطف.. الانتظار صار وحشاً يلتهمنا ويلتهم حياتنا.... قصَّرنا في تربية أولادنا وفي متابعة دروسهم وأنشطتهم.. مللنا من حركتهم في العتمة.. نضربهم أحياناً ونصرخ في وجوههم دون سبب مقنع.. نتشاجر مع الأهل ويصل الشجار إلى الجيران.. وقد نختلق مشكلة مع رؤسائنا في العمل.. ومرات نخبط على الطاولة ونتحدى.. ولا نعرف ماذا نتحدى.. تأخرت مشاريعنا.. تعطلت أدمغتنا.. ويبست أفكارنا.. نخلع اليأس عنا.. لكن اليأس يلتصق بنا ولا يفارقنا.‏

الانتظار يجعلنا نكره الساعات المهدورة في الصمت المريع.. الانتظار لـ (اللاشيء) يخرب حاضرنا ومستقبلنا.. في أعماقنا هشيم يحترق.. وفي عيوننا شرر يتطاير.. لم نعد كما كنا مسالمين وقانعين.. الانتظار حوَّلنا إلى بشر ضجرين.. شرسين.. لا نهاب اختراق القيم ولا نهاب غضب الآباء ولا نظرة الشارع إلينا.. كأننا نقول: هكذا نحن - مين ما عجبوا - كأننا لسنا نحن.. نخاف بعضنا ونخاف من أصدقائنا.. الغدر صار سمة الناس.. وسمة عالمنا المتصدع المنهار.. نغشّ.. نسرق.. ننتهك العدالة والقوانين.. نرتشي.. ندّعي.. نكذب.. لأن المثل يقول: (إذا مررت بمدينة العميان ضع يدك على عينيك)‏

صرنا كلنا عميان الانتظار في الانتظار القاتل.. متى ينتهي هذا الانتظار اللعين الذي عرقل حياتنا وسرق أبناءنا لا ندري؟.‏

متى ينتهي عراكنا حول الحرية وحول الكراسي؟ لا ندري.. متى ينتهي عراكنا مع المازوت والغاز والكهرباء لا ندري.. لقد تحولنا إلى لا شيء بانتظار اللاشيء.. لم نعد نفكر في المستقبل.. ولا يهمنا تاريخنا الماضي.. مات الحنين ومات الشوق.. قتلنا الحب بأيدينا وقتلنا الوطن وذبحنا تاريخه.. نحن لم نعد أبناء تاريخنا المجيد.. ولم نعد ننظر في المرايا التي تذكرنا بنا.. بل نحن أبناء اللحظة.. أبناء الانتظار.. أبناء العتمة واللحظة الآنية والسلع الغائبة التي نحاول الحصول عليها بشتى الوسائل.. نحن الأبناء الذين اعتدنا الضوء والأمان والرخاء.. لا نقدر على الصبر أكثر.. على هذا القتل والدمار والاحتيال والجوع.. أنهكنا الحاضر.. مع ذلك لم يتعب قطاع الرؤوس.. ثكلتهم أمهاتهم..‏

أعذرني أيها الانتظار لقد شتمتك بما يكفي نكرهك ونضيق بك وبهذه الأيام التي تدور متشابهة.. مملة.. لا جديد فيها سوى أننا بانتظار دائم للانتظار.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 أنيسة عبود
أنيسة عبود

القراءات: 682
القراءات: 805
القراءات: 731
القراءات: 689
القراءات: 723
القراءات: 653
القراءات: 674
القراءات: 870
القراءات: 922
القراءات: 753
القراءات: 729
القراءات: 768
القراءات: 755
القراءات: 848
القراءات: 749
القراءات: 744
القراءات: 734
القراءات: 817
القراءات: 728
القراءات: 880
القراءات: 738
القراءات: 784
القراءات: 871
القراءات: 953
القراءات: 756

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية