| قراءة أولية في الاستراتيجية السورية معاً على الطريق ( استراتيجية) غامضة وملتبسة وإشكالية في آن معا,فالانطباع الأول الذي يمكن أن تخلفه هذه الكلمة هو سعة الاطلاع و الشمولية, فحين نطلق على شخص ما صفة محلل أو خبير استراتيجي فإن هذا الوصف قد يوحي بأنه مطلع على خفايا الأمور وعلى مفاصل القرار,في حين أن القصد هو وصف هذا الشخص بالشمولية وسعة الاطلاع,وعليه فإنه ليس كل من يقفز في حديثه من العراق إلى لبنان إلى القرن الإفريقي إلى جنوب شرق آسيا إلى أمريكا اللاتينية إلى جزر المالديف هو محلل استراتيجي بل قد يكون متابعا واسع الثقافة و الاطلاع فقط,وقد لا يفقه شيئا في جوهر وأسس الاستراتيجية. يعلن الرئيس بوش استراتيجيته الجديدة حول العراق فهذا يعني أن ثمة استراتيجيتين أمريكيتين على الأقل حول هذا البلد,وحين يعطي إثيوبيا الضوء الأخضر لاجتياح الصومال ويأمر بقصف مواقع فيه فهذا يعني أننا تجاه استراتيجية أمريكية جديدة تخص هذا البلد المفترس المسكين المخذول على الصعيد العربي و الإسلامي والإفريقي والدولي,وأننا في الوقت نفسه باتجاه استراتيجية أمريكية جديدة حول القرن الإفريقي وحول مجمل القارة الإفريقية وحول المنظومة العربية-الإسلامية وحول دول عدم الانحياز,وحين يشدد من لهجة خطابه تجاه كل من إيران و سورية فهذا يعني أننا قد نكون على أعتاب استراتيجية جديدة تجاه هذين البلدين المارقين!!! وعليه يصعب جدا الوصول إلى عدد الاستراتيجيات الأمريكية حول كل قارة أو إقليم أو منطقة أو بلد أو تجمع سكاني أو شارع ضمن حدود الصعيد السياسي والدبلوماسي والعسكري فقط,ناهيك عن الصعيد الاقتصادي والتجاري والمالي والفكري و الإيديولوجي و الثقافي و العولمي,وعليه يمكن القول إن هناك آلاف الاستراتيجيات الأمريكية الفرعية,ولكن يبقى هناك مع ذلك شيء اسمه الاستراتيجية الأمريكية العليا المتمثلة بمفهوم القطب الأوحد والهيمنة على العالم كله والتحكم بمصائر الشعوب. وكنقطة من أول السطر أقول إن البلد الذي لا يملك قراره الوطني بين يديه ولا يشعر بالعز والكرامة الوطنية فإنه لا يمكن أن يتمتع بممارسة أي نوع من أنواع الاستراتيجية مهما تعاظم حجم مقوماته وقدراته,وأنه سيبقى في حالة تأزم مستمر مع منطلقاته الروحية والدينية والوطنية ومع شعبه ومع محيطه الإقليمي,اللهم إلا إذا اعتبرنا الإذعان والخضوع للإملاءات الخارجية,والأمريكية منها خاصة,نوعا من الاستراتيجية. وانطلاقا من هذا المفهوم فإن أي نوع من أنواع الاستراتيجية لا يمكن أن يقوم إلا على الفعل ولا يمكن بالتالي أن يقوم على رد الفعل,وهذا ما يتبدى جليا اليوم في مأزق الحكم في العراق الذي بنى استراتيجيته على إسقاط نظام صدام حسين فقط من دون أن يفكر بعقابيل سقوطه وما يمكن أن يترتب على مثل هذا السقوط من آثار كارثية,الأمر الذي يجب أن يدفع العرب إلى تعلم درس بسيط جدا من فجائع وكوارث العراق ,بأن يشمئزوا من فكرة أن تكون استراتيجية أي معارضة على إسقاط النظام على ظهر دبابة!! وعليه فإن نظرة خاطفة نلقيها على استراتيجية( خيمة كراكوز) التي اسمها حركة 14 شباط أو آذار,والتي جمعت في أكنافها شتاتا وفلولا من المرتزقة وأشباه السياسيين من الصبيان والغلمان ترينا مدى التحلل والتهتك السياسي الذي تردت إليه المنطقة برمتها, فهل يعقل أن تقوم استراتيجية على قرارات دولية وعلى نزع سلاح المقاومة التي كانت مصدر فخار للعرب والمسلمين, وعلى المحكمة الدولية التي صارت مضغة الأفواه بعد احتمالات استقالة براميرز وعلى مؤتمر باريس 3 الذي تحيط به الريبة من كل حدب وصوب, ناهيك عن اعتماد سياسة الاغتيالات وإسقاط الأنظمة? ولو لم أكن على يقين كامل بأن القرار السياسي في بلدي غير مرتهن للخارج ومن أن القيادة السياسية فيه ممانعة للإملاءات ولديها تحسس مفرط تجاه أي شكل من أشكال التبعية أو الخضوع أو الاذعان لما انخرطت اليوم في هذا الإشكال ولما كتبت أصلا في صحافتنا الوطنية. ما أرمي إليه تحديدا هو نوع من التفكير بصوت عال وموضوعي حول الملامح العريضة للاستراتيجية السورية بعيدا عن مختلف أشكال التمجيد والاطناب والموالاة واللاموالاة والمعارضة والمناوأة والكيدية والمناكفة والتصيد والمعاداة, والتساؤل أيضا عما إذا كان لنا دور حقيقي نلعبه كأفراد أو مجموعات مستقلة في بلورة هذه الاستراتيجية وفي تطويرها ودعمها وصيانتها بصرف النظر عن مواقفنا التي قد تتطابق أو تتماشى أو تتعارض مع المواقف الرسمية حول عدد من النقاط. يمكن الجزم بلا تردد أن الموقف الوطني الممانع لسورية هو حصيلة للاهاب التاريخي لها والذي سمح لمختلف الأنظمة التي مرت على حكمها بهامش ضيق من التحرك في إطار الخيارات الوطنية والقومية, وفي ما يلي بعض مقومات الاستراتيجية السورية حسب اجتهادي الشخصي وبشكل أقرب ما يمكن للموضوعية: 1-مضى على استقلالنا الذي ترسخ منذ عيد الجلاء في 17 نيسان 1945 اثنان وستون سنة يمكن قسمها الى حقبتين رئيسيتين: الأولى استمرت 25 سنة (1945-1970) جرت فيها حوالى عشرة انقلابات, أما الحقبة الثانية فاستمرت 37 سنة حتى الآن (1970-2007) سادها الاستقرار وعليه فإن الاستقرار والأمن والسلم الأهلي من أهم مقومات الاستراتيجية السورية, ولا مجال لقيام أي مغامرات. 2-على صعيد الصراع مع العدو الصهيوني فإن القيادة السورية اختارت السلام الشامل والعادل كخيار استراتيجي ومع أن غالبية الشعب السوري ترفض فكرة قيام الكيان الصهيوني لكن هذا الخيار هو منطقي من الناحية الرسمية طالما أنه لا يقدم أي نوع من التنازلات, ورغم أنني لست خبيرا في الشؤون العسكرية لكنني ومن ضمن المعطيات المتوافرة للجميع فإن سورية ومن ضمن استراتيجية الفاعلية العالية للصواريخ التي أثبتها حزب الله قادرة على توجيه ضربات أكثر من موجعة للكيان الصهيوني ناهيك عن مسألة حتمية تفجر المنطقة برمتها إذا ما حدثت مجابهة شاملة بين سورية والعدو الصهيوني. 3-في ما يخص الإطار القومي فإن سورية ما زالت البلد العربي الوحيد الذي لا يفرض تأشيرات دخول على العرب وإذا كانت سورية قد حلقت خارج السرب العربي في الحرب الظالمة التي شنها صدام حسين على إيران فإن عليها أن تنفصل عن هذا السرب الملغوم في حال قيام أي قلاقل محتملة, وإن الدعوة الى عودتها الى الحظيرة العربية وانفكاكها عن ايران هو نوع من الاذعان للتبعية الأميركية تحت شعار القومية والاعتدال المشبوهين ضمن صيغتهما الراهنة الفاضحة. 4-فيما يخص مسألة الديمقراطية وحقوق الانسان فمع أننا نستنكر أن يرفع أي رجل أمن صوته أمام أبسط مواطن وألا يرفع شرطي السير يده بالتحية لأي سائق ومع معارضتنا الشديدة لأي اعتقال تعسفي أو لمحاسبة أي مواطن على رأىه فإن سورية قد أثبتت في السنوات الأخيرة أنها من أكثر الدول التزاما بحقوق الانسان ضمن محيطها وضمن نطاق أوسع, وعلى الأخص بعد المظاهرات التي اكتسحت العالم كله ضد القمع والاستبداد الذي تمارسه أميركا التي تعتبر نفسها قلعة الحرية في العالم والمتمثل بسجن غوانتانامو. 5-فيما يخص مسألة الفساد والمحسوبية والاستئثار فإن سورية تبقى أيضا من أقل الدول المحيطة فسادا, وإننا نجد المناخ ملائما لممارسة مختلف أشكال النقد, وكل ما نطلبه أن تمضي قيادتنا السياسية الى أبعد الحدود الممكنة في مكافحة الفساد إلى حد أن تسود ثقافة بأن المنصب ليس امتيازا بل مسؤولية وأن يشعر المسؤولون بالغصة من الرفاهية التي يتنعمون بها وأن يشعروا بأنها تحصلت لهم من رقاب الفقراء الذين بالكاد يجدون ما يسد الرمق. 6- في ما يخص دول الجوار فلا اعتقد أن طرفا تأذى أكثر من سورية مما حصل في العراق وفي لبنان,الأمر الذي أضاف فوق الأعباء الاقتصادية أعباء أثقل وأمر,وأبسط منطق للأمور يفترض أن تبذل سورية قصارى جهدها لعودة الاستقرار لهذين الجارين العزيزين في أسرع وقت ممكن لتتنفس شيئا من الصعداء. ومع إن الموضوع يحتاج إلى مساحات أوسع بكثير لكن أرجو أن تكون هذه المحاولة تأسيسا لمعالجة قضايانا بصوت عال بعيدا عن التشجنات والتجاذبات والكلام الفارغ الذي لا يسمن ولا يغني من جوع..
|
|