نستنزفها وننهش فيها مع علمنا ومعرفتنا التامة بأن الدولة لها مواردها المحدودة جدا، وليس بمقدورها أن تستمر في تقديم الخدمات وأسباب الحياة الكريمة مع استمرار الأغلبية الساحقة بسلوكيات غير مسؤولة، وأقل ما يقال فيها أنها اتكالية.
هناك ثمة ثقافة عامة سائدة ومسيطرة، هي ثقافة الاتكال على الدولة، ينبغي التنبه لها ومعالجتها على نحو علمي وعملي يبدأ من الفرد والأسرة والمدرسة أو يبدأ من الدولة بمؤسساتها وهيئاتها لا فرق، المهم أن يبدأ هذا العمل الذي ربما ننجح فيه لو اضطلعت كل جهة بدورها ومسؤولياتها، ولو توفرت صيغ التعاون والتكامل بين مؤسسات القطاع العام وبين منظمات المجتمع الأهلي، وينبغي أن تتوفر، اذ لا يمنع قانون أو عرف هذا الشكل من التكامل والتعاون، بل ان القوانين تشجع عليهما، وتطلب وتلحظ الحكومة هذا التعاون والتكامل في بياناتها السنوية التي تتقدم بها الى مجلس الشعب أثناء مناقشة الموازنة العامة للدولة.
ففي موضوع العمل يعتقد الكثير من الناس أن توفير فرص العمل هي مسؤولية حصرية بالدولة، وهذا اعتقاد خاطىء تماما اذ لا يمكن للدولة أن تحتضن جميع أبنائها في الوظائف العامة، وربما بسبب من تحمل مؤسسات القطاع العام هذا الدور الاجتماعي، نمت ثقافة الاتكال على الدولة، فأمسى كل من يبحث عن فرصة عمل بلا عمل يلجأ الى الدولة ليضمن مرتبا شهريا، وليحظى بالترفيع الدوري مهما كان مستوى عمله وأدائه، ولتكون الوظيفة الملاذ الآمن من التسريح، ثم ليضمن تقاعدا يحميه من متاعب وأمراض ومصائب أرذل العمر.
وفي مسألة الضرائب يتهرب كبار وصغار المكلفين من أداء واجب دفع الضريبة واستحقاقها، واذا ما اضطر البعض فان التلاعب بها هو خيار كثيرا ما يلجأ اليه كل المكلفين بالتواطؤ مع جباة المالية، أو بالاحتيال من خلال ابتداع طرق تلتف على القوانين والتشريعات، وتتيح فعل التملص بسبب الثغرات الموجودة فيها أصلا.
وفي جزئية الخدمات المهمة يستسهل الجميع سرقة الدولة وربما لا يشعر بالذنب ولا بوجع الضمير وهو يمارس فعل السرقة العلنية الموصوفة سواء تجلت باستجرار التيار الكهربائي غير المشروع أم كانت باستجرار مياه الشرب بطرق غير شرعية لا يكتفي بها بل يهدر المياه والطاقة؟!.
لماذا لا يشعر بعضنا بالخجل والحرج وهو يهم بركوب حافلات النقل الداخلي العامة من دون أن يدفع التعرفة، وفي الوقت ذاته يتهيب القيام بالفعل ذاته مع وسائل النقل الخاصة، بل ربما يشعر بعجزه عن القيام بذات الفعل هنا لأسباب كثيرة يعلمها ويدرك أبعادها؟.
وكذلك يفعل ويتطاول ربما على الكثير من الخدمات العامة التي تقدمها الدولة، وعموما يمكن رصد الفارق الكبير بين سلوكيات العاملين في الدولة داخل مؤسساتهم وبين سلوكياتهم داخل بيوتهم،بدءا من استخدام الانارة والحمامات الى الورقيات ومستلزمات العمل وصولا الى وسائل النقل والاتصالات وغيرها الكثير، ذلك أن عدم المبالاة والاسراف والهدر سمة عامة لسلوكيات الأغلبية داخل المؤسسات العامة، والاهتمام والحرص والتوفير ما أمكن داخل البيوت ... لماذا هذا التناقض في السلوكية، وما السبيل الى تصحيحها؟!.
قد تكون الدولة مقصرة في بعض الجوانب، وقد تتحمل الدولة جزءا من مسؤولية انتشار ثقافة الاتكالية عليها والاضرار بها، غير أن المسؤولية الأعظم تقع على عاتق الفرد، والأسرة والمجتمع الأهلي، وأنماط التربية والثقافة العامة، ولمعالجة المشكلة المعضلة لا بد من اعادة توزيع الأدوار والقيام بها على نحو أخلاقي قبل القانوني، وهما لا ينفكان عن بعضهما، وينبغي أن تتكامل الأدوار لاحداث التغيير في النظرة للعمل والوظيفة في القطاع العام، وفي النظرة تجاه الأملاك العامة، والخدمات، ومصادر الطاقة والموارد المائية، وموارد الدولة المالية والضريبية .. وبالمحصلة يجب أن يشعر الجميع من دون استثناء أن القيام بفعل التغيير بالسلوكيات، وتقويمها وتصحيحها، هو واجب وطني وأخلاقي يجب ألا يتخلف أحد عن القيام به بالمطلق.