مما طرأ علينا طارئة التسونامي المدمرة في السنوات القليلة الماضية، لوجد أن أكثر من تسعين في المئة أيضاً من هؤلاء العرب سوف يوبخونه في أقل تقدير.. إن لم يشتمونه ويسبونه ويتهمونه بالعجرفة والخواء والغباء.. وربما يهدر بعضهم دمه أو يفعل، ولوجد نسبة مماثلة أيضاً من المنافقين والمزايدين، الذين سيفتحون له منادل من الردح والقذف والتشهير.. ومنادل أخرى في مديح الثقافة العربية والتراث والهوية والانتماء والخصوصية وغيرها، وإن وافق بعضهم جزئياً على هذا القول أرفقه بألف سبب وسبب للتبرير والتسويغ والترقيع وإلقاء التهم على الآخر.. أي آخر في أربع اتجاهات الأرض، وقد حدث الكثير من هذه المناكفات طيلة عقود من السنين!
كان مثل هذا دائراً وبكثرة قبل تسونامي « الربيع « العربي، وما يزال دائراً خلاله وبعده وبطرائق أسوأ كثيراً مما قبله، أي بتطرف أكثر وعنف ودموية أكثر.. وربما بغباء أكبر أيضاً.. إن لم نجاهر القول أنه وبانحطاط أخلاقي أكبر.. أجل انحطاط أخلاقي، جعل من العداء الأعمى وعناد تحطيم الرؤوس قاسماً مشتركاً وجامعاً لا يجمعنا إلاه!
ومن يستعرض بهدوء محاور الصراع التي دارت في المنطقة العربية ودولها ومجتمعاتها في السنوات الأربع الماضية، سيكتشف بقليل من النباهة والتركيز أن كل هذه الصراعات دارت على الأشياء لا فيها، دارت على الحرية لا في الحرية وعلى الديمقراطية لا في الديمقراطية وعلى المعارضات لا في المعارضات.. وهكذا إلى آخر سلسلة الصراعات المختلفة والمتفاوتة والمجانية.
إذ لا تجد طرفين اختلفا في طرائق إرساء الحريات، بل إن كلاً منهما يكتفي باتهام الآخر بقمع هذه الحريات، ولا في دروب الوصول إلى الديمقراطية، بل إن كلاً منهما يتهم الآخر بالديكتاتورية والاستبداد بعد أن يطهر نفسه منهما، ولا في كيفية ممارسة المعارضة السياسية والوطنية الحريصة، بل إن كلاً منهما يتهم الآخر بالموالاة لجهة ما والعمالة لها.
لو كنا حقيقة نفهم ما تعنيه المفردات لما كنا اختلفنا عليها.. بل فيها، ولو كنا نعي تماماً معاني ومدلولات هذه المفردات ومصادر نحتها، ووصولها إلينا وتجارب الآخرين فيها والدروس المستفادة منها، لما كنا جعلنا منها مجرد عناوين تعلكها ألسنتنا ونرددها كالببغاوات دون وعي أو فهم أو فقه.
لكن، ولأننا لسنا كذلك، فإننا نتحايل على خوائنا الداخلي من معانيها ومدلولاتها برفعها شعارات أو مجرد كلمات، ونداري جهلنا بها وافتقادنا معرفتها بارتدائها كأثواب تستر جسوماً عفنة أو كعناوين تستر عقولاً صدئة، ولأننا لا نعرف مقاييس أو نماذج حية وحياتية وواقعية لمثل هذه المفردات نهتدي إليها ونحتكم لها.. فقد رسم كل منا أنموذجه الخاص منها.. لا كما هي حقيقة وكما تعني، بل كما يريد كل منا لهذه المفردات أن تكون عليه
انظروا حولكم، ستجدون تسعين في المئة منا على الأقل جسوماً عفنة وعقولاً صدئة حتى ولو لمعت بعض أسمالنا وأثوابنا.. وحتى لو رددنا بأناقة لغوية أقوالنا!