| قراءة أولية في الاستراتيجية السورية (18) جدلية العصرنة وضبابية بناء المؤسسات معاً على الطريق أما العصر كمفهوم جدلي بمعنى مواكبة الراهن والتعامل مع معطياته والتكيف مع شروطه فهو شبه غائب عن الذهن وعن الثقافة والوعي الجمعي, لا بل الأدهى هو أن مفهوم العصرية والعصرنة انقلب إلى نوع من الرجس لارتباطه في أذهان غالبية الناس بالخلاعة والتحلل الأخلاقي والفجور الذي يتهم به الغرب, دونما أدنى تفكير بالجانب الفلسفي والأخلاقي والإبداعي والاقتصادي والاجتماعي لهذا المفهوم. ربما ولهذا السبب تحول مفهوم (المحافظة) من الحفاظ على التقاليد والأخلاق إلى نوع من الجمود الفكري, وتحول الحجاب الذي هو من مظاهر الحشمة إلى نوع من تحجيب العقل, وهكذا انطلقت أفواج من المتحجرين عقلياً بإشهار سيف (البدعة) على كل ما هو عصري مع تنعمهم بآخر منتجات العصر من سيارات وطائرات وتلفزيونات وموبايلات و..و..و.. ولو أنهم استمروا بركوب الخيل وامتطاء الابل والتسلح بالسيوف والرماح والعيش على السراج والقنديل لهان الأمر, لكنهم يحللون ويحرمون على أمزجتهم ووفق مصالحهم ويطلقون صفة البدعة حسب ما يحلو ويروق لهم. ولقد توهمنا بعد استخدامنا -عرباً ومسلمين- للكهرباء أننا دخلنا عصر الكهرباء وأننا بعد ركوبنا للطائرات دخلنا عصر الطيران, دون أن نعي أنه حين يستخدم أحدنا كلمة (حرنت) على السيارة التي لا تقلع فإنه ما زال يعتبر السيارة دابة تطيع وتحرن, ما جعله يحرّم على النساء قيادتها لأن النساء خلقن لركوب الهوادج. ويوماً بعد يوم اكتشف بشاعة الجريمة التي ارتكبها العرب باضاعتهم عام 1948 لأصول المعجم التاريخي للغة العربية الذي وضعه المستشرق الالماني أوغست فيشر وعدم تفكيرهم بوضع معجم تاريخي جديد على انقاض ذلك المعجم التاريخي الرائد. وفي سياق الكلمة نفسها وعلى سبيل المثال أقول: ما الأصل التاريخي لكلمة (عصرونية)?. العصرونية هي سوق في دمشق القديمة اشتهرت بهذا الاسم لأن فيها مدرسة ومسجداً باسم الفقيه الشافعي المعروف بابن أبي عصرون المتوفى عام 1189 ميلادي, بدءاً من القرن الماضي تخصصت هذه السوق ببيع أدوات المطبخ فصارت كلمة عصرونية مكافئة لهذه التجارة, فأي محل يفتتح في أي مكان في دمشق ويتعاطى مع أدوات المطبخ يسمى محل عصرونية, وهكذا اختلط العلم والفقه بالصحون والكاسات والطناجر والسكاكين والمعالق والكباجي والكفاكير, كما هو الحال مع حلة أو طنجرة الشوربة التي أسسها الثقافة والمعرفة, والتي هي أكبر دليل على بؤس الاكاديمية العربية والاسلامية التي اوصلتنا إلى هذا الدرك. تناولت هذا المفهوم في العديد من المقالات أبرزها (روزنامة الزمن وروزنامة الحضارة) والذي أكدت فيه على أن جميع من على ظهر هذا الكوكب من صنوف البشر والحيوانات والدواب والحشرات والهوام يعيش في يوم واحد حسب روزنامة الزمن لكنهم جميعاً يعيشون في قرون مختلفة حسب روزنامة الحضارة, فغالبية المسلمين اليوم ما زالوا يعيشون في القرون الأولى للإسلام وبعضهم وصل إلى القرون الوسطى وقلة نادرة منهم بدأت تتفهم معنى العصر الراهن والعصرنة. أكدت في مقالي »ركب الحضارة.. وجدلية التقدم والتقهقر) المنشور في صحيفة الثورة بتاريخ 18/10/2004 على أننا نتقهقر بانتظام رغم تشدقنا بمحاولة اللحاق بركب الحضارة, فإذا كنت تركب سيارة تسير بسرعة مئة كيلو متر في الساعة وتريد أن تلحق بسيارة تسير بسرعة مئتي كيلو متر في الساعة فهذا يعني أنك تتقهقر مئة كيلو متر في الساعة, وهذا ما يحدث معنا فعلاً. علينا أن نعترف بأن ثمة نوعاً من الانفصام في الدماغ, فقد تجد طبيباً بارعاً ومستوعباً لآخر ابداعات الطب في جزء من دماغه لكن الجزء الاخر من الدماغ يخضع لأساطير وخرافات ما أنزل الله بها من سلطان, وعليه فإن تمثل روح العصر ليس أمراً شكلياً بل هو ثقافة وحضارة وإيمان ومعايشة يومية, وكنوع من الترويح عن كاهل القارىء العزيز المثقل بالهموم رأيت أن أذكر بعض القصص الطريفة في هذا السياق. بعد أن توقفت الحرب الأهلية في إحدى البلدان العربية صارت الدبابات تستخدم وسائط نقل في المناطق الجبلية الوعرة وكان أمراً عادياً ومألوفاً أن يتوقف سائق الدبابة أمام حاجز أمني ويسلم سلاحه وهو الحنبية (الخنجر) ويكمل مشواره ثم يعود لاستلام سلاحه. وحدث حين جرى بناء معامل حديثة للتبغ تقوم بتعبئة علب الدخان آلياً أن اصطدم مدير المعمل بمشكلة وهي أن خط الانتاج يتضمن قطعة تلقي بعلبة الدخان المخالفة للمواصفات خارج الخط, وبعد أن استعصت عملية فك هذه القطعة ابتكر مدير المعمل حلاً عملياً بتعيين موظف خاص يقوم بإعادة العلب التي تقذفها الآلة إلى خط الإنتاج مؤسساً لمفهوم الانتي تكنولوجيا أي اللاتكنولوجية. لكن أهم ما اختزنته ذاكرتي في هذا السياق حادثة جرت في أواسط الستينات حين اشترت سورية من فرنسا طائرتين نفاثتين من طراز »كارافيل) حيث هللنا وقتها وكبرنا بأننا دخلنا عصر الطيران التجاري النفاث, لكن ما حدث كان فولكلورياً بكل ما في الكلمة من معنى. فبعد نزول الوفد الفرنسي من الطائرة في مطار المزة أغمي على إحدى السيدات لدى مشاهدتها دماء عدد من الخرفان وهي تذبح كنوع من الفدو للطائرتين وعلى الأخص حين شاهدت الأكف الملطخة بالدماء تنطبع على الطائرتين, فكان أن استهتر العديدون بهذه الاغماءة واعتبروا الفرنسيين متخلفين لأنهم لا يعرفون ماذا يعني »الفدو) أي ذبح الخرفان لدى سكن بيت جديد أو اقتناء سيارة أو طائرة. ومن أطرف فصول تلك الرواية الفولكلورية أنه حدث خلل فني بعد بضعة أيام حين انزاحت الكوابح من أمام عجلات إحدى الطائرتين فسارت ببطء باتجاه الطائرة الأخرى. وضمن أجواء الحيرة والتخبط والهرج والمرج الذي انتاب الجميع هرع صديق اسمه رياض المصري ولا يبلغ طوله 160 سنتمتراً بنوع من الحس الغريزي أو البدهي وشرع بالتعلق بالطائرة وبضرب العجلة الأمامية بقدمه إلى أن جعلها تنحرف عن الطائرة الأخرى مجنباً الطائرتين التصادم أمام مرأى الجمهور العاجز والمحبوس الأنفاس, فكان أن قبض جائزة قدرها 75 ليرة سورية وضعها ضمن لوحة خاصة إلى جانب كتاب الشكر. الطريف في الموضوع كله أن بعضهم اعتبر نجاة الطائرتين لم يكن بسبب بداهة رياض المصري بل بسبب الفدو وذبح الخرفان, والانكى من ذلك كله أن بعضهم اعتبر ضرب الطائرات الحربية السورية عام 1967 لم يكن بسبب عدم اليقظة بل بسبب عدم ذبح الخرفان أمام عجلاتها. أما فيما يخص مفهوم المؤسسات فأؤكد على أننا ما زلنا بعيدين جداً عن المفهوم المؤسساتي, فالمؤسسة ما زالت تعني بالنسبة لنا شكلاً من أشكال الشركات كالمؤسسة العامة للصناعات الغذائية أو المؤسسة العامة لتوزيع الخضار والفواكه, أما المؤسسة بمعنى مجموعة متعاونة كأجزاء الساعة لتنفيذ عمل مشترك, بمعنى ألا يتجاوز أحد اختصاصه أو حدوده وألا يسمح لأحد بأن يتجاوز اختصاصه وحدوده فهو أمر ما زال عسيراً. عاودت الكلام عن هذا الموضوع لأننا أمام عتبة مرحلة جديدة تتلخص بالولاية الرئاسية الثانية للرئيس بشار الأسد وأنتهز هذه الفرصة لأتقدم لسيادته بالتهنئة والتبريك كمواطن عربي سوري أولاً وكصديق محب وغيور على الوطن وعليه ثانياً. وإن عملي على إنجاز الموسوعة الشاملة لأدبيات سيادته والتي تربو على عشرة آلاف صفحة ليس نوعاً من التفخيم والتضخيم بل هو جهد حثيث لتلمس طريقنا جميعاً نحو المستقبل بنوع من الوعي الديمقراطي. وحين يقول سيادته في لقائه مع صحيفة نيويورك تايمز الأميركية بتاريخ 1/12/2003 »كان الرئيس الأسد يُعتبر شخصاً عصرياً عظيماً, ربما إذا أردت أن أنتقي الآن فقط من عام 2000 لكن الرئيس الراحل لا يعد مصدر كبح لي, فالرئيس حافظ الأسد كان يقوم بواجبه تجاه بلده وأنا أقوم بواجبي كذلك, وهذا لا يعد شأناً عائلياً..) فإنه يتعامل مع جدلية العصرنة في محيط غاب عنه المفهوم الأساسي للعصر. ما أود أن أقوله تحديداً هو إننا بحاجة إلى عمل حثيث وصارم ودؤوب لترسيخ هذا المنطق العصري, وإنه مهما بُذلت من جهود جبارة فلن تستطيع رأب الصدع وإقامة الجسور فهذا الأمر يحتاج إلى تأسيس محكم وإلى جهود استثنائية لأن المسألة متعلقة بالتاريخ والتراث وتموضع آليات التفكير. burhanbouhari@gmai.com
|
|