تأخذني الدهشة.. وربما الغيظ أحياناً وأنا استمع لبعض من يسترسل بالتنظير في نماذج الحرية والديمقراطية, أو يؤستذ في العلمنة والمواطنة, أو يجادل في الفارق بين نموذج وآخر من هذه أو من ذاك, أو يعاير ويقيس وينتقي بين ما توافر من هذه النماذج لدى الآخرين من الشعوب والمجتمعات, وبين ما يريده هو لبلده ومواطنيه منها, وكما لو أن المسألة عروض في الأزياء والألوان أو « بسطة « خضار وبقول.. انتقي ما شئت وادفع ثمنه, وبعدها أنت المالك الشرعي الوحيد له, تليق به ويليق بك!
الحرية تجربة والديمقراطية إجراء أو طريقة لتداول السلطة.. أي سلطة, والعلمنة شرط تاريخي للديمقراطية لابد منه, وأنت لا تستطيع أبداً أن تحصل على أي منها بقرار أو بحلم يقظة أو بقراءة كتاب أو بالسطو على فكرة من هنا أو عنوان من هناك, فالحرية ليست أن تنتزعها أنت فقط من الآخر, بل أن تؤمن أن من حق هذا الآخر انتزاع حريته منك أيضاً, أي أن ترجوها له مثلما ترجوها لنفسك, والعلمنة تجربة تاريخية وثقافة اجتماعية مستمرة عبر عشرات السنين بل مئاتها, ولكي تأخذ بالديمقراطية كإجراء أو كطريقة لتداول السلطة... وليس السلطة السياسية فقط, لا بد أن تكون علمانياً أولاً إذ لا تستقيم أبداً خلطة الطائفية والمواطنة!
الديمقراطية نموذج لثوب أنتجه الأوروبي عبر قرون بإبره وخيوطه وألوانه, وبمسطرته وقلمه ومقاساته, فإن كنت عاجزاً عن انتاج نموذج مماثل له تخيط به ثوبك الحضاري الخاص.. فلم التكهن الأعمى بأن نماذج الآخرين تليق بك.. وأنت لا تطيق هؤلاء الآخرين بوصفهم بشراً مثلك فكيف تطيق أمثالهم من أبناء جلدتك وهم يقتسمون معك الدولة والمجتمع؟ ولم الأستذة في معاجم لغات الآخرين وقواميسهم وأنت لا تدرك حروف الأبجدية فيها؟؟
والعلمنة نتاج ثقافي غربي نشأ وترعرع واستمر لقرون أيضاً, وقد شكل فيما بعد البنية التحتية بل الأساس في بناء مفهوم المواطنة القائمة فقط على الانتماء للوطن, فإذا كنت تعوم في أوحال التعصب والتمذهب والتعرق, وتأكل وتشرب من انتماءات الدين والطائفة والعرق والعشيرة والعائلة ما دون الوطنية والمواطنة.. فلم الادعاء بالشفافية تجاه نماذج الآخرين وفي قبولها أو تعديلها.. بل ادعاء الشوق إليها وذرف دموع التماسيح على افتقادك إياها كما لو أنها جزء من طينتك ومكوناتك الأولى, وإذا كان فهمك للعلمنة غير مستقر بعد في أنها احتكام للعلم أو أنها تحييد للدين.. فلم محاولة ارتداء أرديتها الفضفاضة الرافلة.. وأنت الضئيل الصغير داخلها, أليس نصيبك الأرجح أن تتعثر بها.. وقد تعثرت وانتهى الأمر؟؟
كفاكم دجلاً ونفاقاً ورياء وكفانا دماً وألماً وخراباً.. ليس هذا عصر تنويركم وتنويرنا, بل عصر انحطاطنا على أيديكم!