خاصة الاصطفاف حول مراكز القوى التقليدية أو الصاعدة ،ومن منظور استراتيجي وتاريخي يمكننا الحديث عنها بتسلسلها الزمني، آخذين بالحسبان درجة تأثيرها على المنطقة العربية وانعكاسها المباشر على الصراع العربي الصهيوني وارتداداتها على دول الإقليم بشكل عام ومن منظور زمني يمكننا تحديدها بجملة تحولات كان أولها ماتلا حرب تشرين التحريرية وما أعقبها من أحداث يأتي في مقدمتها توقيع اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة الصلح المصري الإسرائيلي وانعكاسها على مسار الصراع العربي الإسرائيلي، وتحول ذلك الصلح إلى نهج لبعض الأنظمة العربية بالتوقيع على معاهدات مماثلة أو تطبيع للعلاقات بالنسبة للدول العربية التي لا تحادد الكيان الصهيوني، سورية وحدها كانت الحالة الاستثنائية من تلك الموجة الاستسلامية التي اجتاحت المنطقة العربية، أما التحول الثاني الذي حدث فتمثل بسقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار المنظومة الاشتراكية وتداعيات ذلك على الدول التي كانت حليفة له إما بسقوط أنظمتها أو تحول جذري في سياساتها واصطفافها في أرتال جديدة، وكانت سورية الاستثناء من ذلك أيضاً، التحول الثالث الذي بدل في خرائط العالم بشكل كبير تمثل بتداعيات أحداث أيلول عام 20١1 والاندفاعة الأميركية غير المسبوقة تجاه دول العالم تحت ذريعة محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه وعلى قاعدة كل من ليس معنا فهو ضدنا، وعبرت عن نفسها بحربين غير مسبوقتين خاضهما الغرب بحجة الدفاع عن الأمن الاستراتيجي الأميركي وحماية العالم الحر، وتمخضتا عن احتلال العراق وافغانستان وقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين من أبنائهما، ترافق ذلك كله مع سطوة أميركية على الهيئات الدولية وتدخل سافر في الشؤون الداخلية للعديد من الدول مع حرب إعلامية وتعبئة نفسية قادتها الآلة الإعلامية الأميركية مع إسناد غربي مهد لها بعناوين جذابة كتحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعلى الرغم من المناخ الدولي الذي جرت تعبئته لينسجم مع هذه المفاهيم مع تلويح بالقوة تارة واستخدامها تارة أخرى، لم تنحن سورية لكل هذه الموجات والتهديدات وبقيت متماسكة ثابتة على مواقفها ولم تجرفها إلى حيث انجر الآخرون وتخلوا عن كل شيء شريطة الحفاظ على مواقع لهم في المسرح الأميركي الجديد، وكانت سورية الاستثناء من ذلك محافظة على استقلال قرارها الوطني ومجسدة الفعل الممانع والمقاوم والملهم.
أما الآن والمنطقة العربية تعيش حراكاً شعبياً غير مسبوق، تمخض عن سقوط عروش واهتزاز أخرى تبشر بعصر عربي جديد بملامحه وبناه وأدواته مايبعث الأمل في النفوس ويعيد المواطن العربي إلى ساحة الفعل السياسي مشاركاً حقيقياً في صياغة مستقبله ومستقبل وطنه، متمتعاً بحقوق المواطنة كاملة غير منقوصة وهو الذي جرى تهميشه واقصاؤه عن دائرة الفعل الوطني. تلك الموجة التي تجتاح عالمنا العربي وإن كان لها قاسم مشترك في أكثر من موقع ومكان، إلا أن القول إن بلداننا العربية مستنسخة في شكل بنائها السياسي وأدائها الداخلي فهو قول في غير موضعه، فلكل نظام سياسي سجله وأداؤه على الصعد كافة، وهنا تبرز الحالة السورية في خصوصيتها التي تعطيها تميزاً عن مثيلاتها سواء على مستوى الأداء الفعل السياسي ودرجة استقلاله عن المجمل الكلي الأميركي، أم على صعيد الشروط الوطنية الداخلية وهذا ماسيجعل منها باعتقادي الاستثناء الرابع في كل مايجري في منطقتنا من تبدلات دراماتيكية تبدو المنطقة فيها وكأنها على خط زلازل سياسية.
مع ماتقدم يطرح السؤال التالي نفسه لماذا كانت سورية الاستثناء من كل ما حصل؟ وهو سؤال له مشروعيته ويحتاج إلى تحليل موضوعي مقنع. وفي ذلك يمكن القول إن الاستثنائية السورية ناتجة عن عدة عوامل تعطيها تلك الخصوصية وتتمثل في أن أولها طبيعة التكوين الحضاري للشعب السوري المتشكل تاريخياً من مكونات ثقافية وروحية وأثنية متعددة شكلت نسيجاً متناغماً متفاعلاً وقادراً على تجاوز الأزمات والتحديات بحلول حضارية ومن دون خسارة مجتمعية أو إضعاف للشروط الوطنية والعيش المشترك، ناهيك بأن الأرض السورية كانت منبع العظماء على مر التاريخ من قادة وساسة ورجال دين وفكر وثقافة.. وثانيها الفعل السياسي الذي يتحرك بدينامية داخلية ولايرتبط ميكانيكياً بإرادة خارجية تحدده وجوداً أو عدماً وتحكمه قاعدة القامة والظل أو الأصل والفرع، فسورية هي رائدة القرار الوطني المستقل وهو ما تكرس خلال نهج امتد لأكثر من أربعة عقود، أكسب السياسة السورية احتراماً عند العدو قبل الصديق، والسمة الثانية التي أعطته تلك الاستثنائية هي المرونة السياسية والقدرة على التكيف الخلاق مع المستجدات مترافقاً بحفاظ على الثوابت الوطنية والقومية إضافة إلى قدرة عالية على استشراف المستقبل وقراءة الأحداث وانتفاء عنصر المباغتة الذي يمكن أن يحاصر السياسي ويفقده إمكانية المناورة والتقاط الفرصة المناسبة، أما السمة الثالثة فهي أن السياستين الداخلية والخارجية تأخذان بالحسبان المواطن السوري ببنيته الوطنية وشعوره وانتمائه القومي بوصلة لهما، وهو مايكسب القرار السياسي حصانة وطنية وقوة دفع ذاتي وهو ما أشار إليه السيد الرئيس بشار الأسد في كلمته المهمة أمام مجلس الشعب.
في المقاربة السابقة تم الانطلاق من فرضية أن موجة ما تجتاح عالمنا العربي دون التطرق لحالة الاستهداف التي تشكل أيضاً حالة استثنائية فيما يتعلق بسورية، لأنها الدولة العربية الوحيدة التي واجهت وضحّت وخاطرت وقاومت وأعاقت وأفشلت مشاريع خططت لها دول وقوى كبرى نافذة ولها حضورها واستطالاتها في أكثر من ساحة، تلك القوى التي استعصى عليها أخذ سورية بفعل خارجي، تحاول اليوم أخذها من الداخل لسببين أساسيين أولهما أن قوة الفعل السياسي السوري ارتكزت في قوته إلى جبهة داخلية ووحدة وطنية متراصة، وهنا يمكن إضعافه من خلال اللعب ومحاولة العبث بتلك الورقة فينكفئ إلى الداخل فتنفتح الساحات الإقليمية للمشاريع الغربية دون أي مقاومة، والأمر الآخر وهو يتعلق بالصراع مع العدو الصهيوني وموقف سورية من عملية السلام ودعمها للمقاومة في لبنان وفلسطين حيث تشكل الحالة المواجهة والرافضة لطي الملف الفلسطيني والقوة الحقيقية التي أفشلت مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أريد له أن يكون صورة المنطقة من منظور أميركي إسرائيلي يعيد رسم خريطة المنطقة بما يستجيب وينسجم مع ما سمي المصالح الاستراتيجية والأمنية للولايات المتحدة الأميركية.
khalaf.almuftah@gmail.com