غير أن بريجنسكي كان يقصد الإشارة إلى فشل الولايات المتحدة في صنع الاستقرار الجيو سياسي، وبرأي الكثير من الساسة والمنظرين والأكاديميين لم يشكل الاستقرار في يوم من الأيام هدفاً للولايات المتحدة.
بريجنسكي الذي يعتبر أن إسرائيل ما زالت التزاماً أخلاقياً لأميركا، تحدث بهلع عن احتمالات تراجع دور الولايات المتحدة؛ وعن تضاؤل مكانتها؛ وعن انحطاطها ما لم تنصرف إلى تجديد ذاتها؛ وما لم تتنبه لرعاية مسؤولياتها العالمية.
وفي أكثر من مكان تحدث بريجنسكي عن هلع ما بعد أميركا مشيراً إلى احتمالات استيقاظ إرث العداوة بين اليابان والصين، وإلى فقدان الأمن النووي، وإلى اهتزاز التوازن في القارة العجوز؛ وتقهقر الغرب عموماً، مقابل ما أسماه السطوع الاقتصادي الصيني والصعود الياباني المحفز، وعدم وجود قوة عالمية تسد الفراغ الذي سيحدثه تراجع دور أميركا.
طبعاً بغض النظر عن رؤية بريجنسكي المتشائمة أميركيا، وبصرف النظر عما يمثل الرجل في الاستراتيجيا إلى جانب لي شتراوس وهنري كيسنجر كمنظرين وملهمين للمحافظين الجدد وللسياسة الأميركية عموماً، فإن لهواجس «مستشار الأمن القومي الأميركي السابق» العديد من الأسباب الموضوعية أولها وأهمها يهوديته وصهيونيته هو وشتراوس وكيسنجر.
صحيح أن للولايات المتحدة كدولة عملاقة، وكقطب وقوة اقتصادية وعسكرية وصناعية، دور مهم عالمياً؛ سواء لناحية حفظ السلام والاستقرار الدوليين؛ أو لجهة الإسهام بالبناء الحضاري العالمي، غير أن الصحيح أيضاً أن عدم قيام أميركا بدورها على نحو أخلاقي وقانوني يمثل أكبر تهديد للسلام والاستقرار في العالم، فضلاً عن أن سياستها في العولمة أساءت إلى دورها وإسهاماتها الحضارية أكثر بأضعاف مضاعفة من الإضافات التي كان يمكن أن تحققها في هذا الاتجاه.
وعليه، فإن الشرط اللازم والكافي الذي يحمي دور الولايات المتحدة من أي تراجع مخيف يكاد ينحصر ليس فقط بتجديد أميركا ذاتها، ولا باضطلاعها –من عدمه– بمسؤولياتها العالمية وحسب، وإنما بتخليها عن ازدواجية المعايير، وبالتفكير الجدي بالتحرر من عبء الالتزام بإسرائيل، وبقبول الشركاء الدوليين، وباحترام ثقافات وإسهامات الدول والشعوب في بناء الحضارة الإنسانية.
وإن اجتماع دول «البريكس» في ائتلاف سياسي اقتصادي دليل على عدم صوابية إثارة المخاوف من الفراغ الذي قد يحدثه تراجع دور أميركا، فضلاً عن أن هذا الائتلاف يفتح الآفاق أمام قوى دولية وإقليمية لتشكيل أحلاف مماثلة تسقط أوهام بريجنسكي الخاصة بعجز الغرب، واحتراب اليابان والصين الافتراضي، وفقدان الأمن النووي المزعوم.
ربما تكون المخاوف التي يتحدث عنها الأميركيون حقيقية، غير أنها تنبثق من نمط التفكير خاصتهم -وتحديداً المحافظون الجدد– ذلك أنهم لا يستبعدون انحطاط أميركا؛ لكنهم لا يتقبلون فكرة إسقاط إسرائيل حتى من حسابات الربح والخسارة بسبب من تطرفهم الإيديولوجي، وربما لو تخلت الولايات المتحدة عن إسرائيل لحدثت تطورات عالمية مهمة قد تكون أوروبا غير بعيدة عنها إن لم تكن محورها لأنها الشريك المتوسطي الأقرب إلى دول شمال إفريقيا وشرق المتوسط عرباً ومسلمين.
كل المعطيات والفرضيات تقول: من المؤكد أن العالم بلا أميركا منحازة لإسرائيل، مزدوجة المعايير، متفردة ومتغطرسة؛ ترفض الآخر ولا تحترم ثقافته؛ سيكون عالماً أكثر أمناً واستقراراً وازدهاراً، ومن المؤكد أن قاطرة الاستقرار لن تكون أميركية ما لم تجدد الولايات المتحدة ذاتها انطلاقاً من المحددات التي جعلتها منذ إبادتها /130/ مليوناً من الهنود الحمر؛ وتجعلها اليوم الأصل في عدم الاستقرار العالمي.