وتبدو قافلة المنضمين لضرورة الانسحاب قد اتسعت, بعد أن كانت في بدايتها مجرد أصوات لم يكن عدد الذين يصغون إليها ذا تأثير واضح.
ولكن الصورة اليوم مختلفة, والتطورات الأخيرة تبرز ذلك الاختلاف, بحكم أن ادعاءات الإبهار التي تعاطت معها الإدارة الأميركية قد تلاشت, ولم نعد نسمع العديد من المسؤولين فيها يتحدثون عن إنجازاتهم, ولا عن الخطوات التي يحققونها في العراق, بل باتوا يرددون خطاباً أقرب إلى الاعتراف بالخطر وبالصعوبات التي تعترض الاحتلال ويقرون بأن الوضع لا يسمح بالنظر إلى المستقبل بتفاؤل.
والقضية الأساسية ليست في خطاب الاعتراف من عدمه, بقدر ما هي في الصيغ السياسية التي يرغب البعض في تقمص روح الريادة فيها للدلالة على الوعي السياسي, والحديث عن المتغيرات, وكأن تلك المتغيرات لم يرها أحد سواهم.
والأخطر ألا يقبل أولئك الاعتراف, في الوقت الذي تبادر الإدارة الأميركية إلى الاعتراف وأن يراهنوا على ما بدا أن إدارة بوش تعيد النقاش حوله, ولاسيما ما يتعلق منها بالمشروع الأميركي الخاص بالمنطقة.
الرئيس الأسبق للمخابرات المركزية الأميركية ومساعد وزير الدفاع الأسبق جون دويتش, يقر بأن المشروع الأميركي الذي دفع به المحافظون الجدد لم يعد قابلا للتحقيق, وأن استخدام القوة للتغيير, لابد من تبديله, إضافة إلى إقراره المسبق بأن الانسحاب الآن من العراق, ولو ضاعت المصداقية أو تآكلت, أفضل من إعلان الهزيمة التي لن تكون المصداقية ضحيتها الوحيدة.
وثمة لائحة طويلة بأسماء شخصيات مهمة في السياسة الأميركية قاربت ذلك الذي ذهب إليه دويتش, بل هناك من كان أكثر وضوحا حين لم يكتف بطلب الانسحاب, وإنما أيضا بمحاسبة المسؤولين عن هذه الحرب, وستكون نقاشات الكونغرس مناسبة لأصوات أخرى لم يسبق لها أن انتقدت علنا الحرب, ولم تطالب جهارا بالانسحاب منعا لما هو أسوأ.
وفق هذه المعطيات ألا يحق التساؤل عن الخطايا الكبرى التي يقع فيها أولئك الذين يدعون الاستجابة للمتغيرات, وهم أول من يرفض الاعتراف بالمتغيرات الأخرى, وليس الأخيرة..?!
لاشك أن الحاجة الفعلية تستدعي مراجعة للكثير من حالات التسويف التي ينتهجها البعض تحت مسميات تتبدل, وتتلون وفقا لواقع شديد التبدل وكثير التعرج أفضى إلى مآزق كبرى في الواقع السياسي العربي كانت إحدى أهم مخاطره الخلط الخطير بين الواقع والوهم إلى درجة المراهنة على أوهام كثيرة, لا طائل منها.
وكذلك ثمة حاجة أكثر إلحاحا للقول إن الغرق في تسويق الكثير من الأفكار على أنها مسلمات, يبدو أشد كارثية, وخصوصا لدى الذين لايرغبون في الاعتراف بأن الرهان لم يكن مقنعا, ومن الخطأ الاستمرار فيه.
ما يجري في الداخل الأميركي, يفترض القراءة المنطقية, لأن ما يثار عن ذلك الجدل ليس الحقيقة كلها, لكنه بمعيار اللحظة, تعبير عن تحولات لابد من التعاطي معها بواقعية, تأخذ في عين الاعتبار فرضيات وخيارات أخرى, تمليها معطيات الإدراك الأميركي, بأن التحولات كانت مغايرة لكل أو بعض ما كانوا يراهنون عليه.
لذلك فإن المحاججة تبدو رهينة أحلام لم تكتمل, ولم تبصر النور, وهي بكل المعايير عبثية, تشير إليها بكل وضوح تداعيات الجدل وواقعيته من حيث المنهج, ومن حيث النتيجة.