وبعضها الآخر يبقى مجرد بالون اختبار سياسي، سيكون من الصعب -بل في جزء منه من المستحيل- أن يتم تنفيذه حتى لو تم قبوله، والحبل على الجرّار لا يتوقف عند حدّ، ويبدو في معظمه من دون سقوف، حيث تضيع التفاصيل بين عرض قائم وآخر تم الرجوع عنه.
الانتقال التركي من الصيف الساخن إلى الشتاء البارد في سياسة لم تتعاطَ يوماً بطقوس السياسة المعتادة، لم يكن مفاجئاً بالمعيار الدبلوماسي، بدليل عشرات القرائن المتراكمة على الخيارات التركية المتسرعة والمتهورة في أغلبها، والتي كانت تذهب حتى آخر الشوط، وهذا ينسحب على مناخ التصعيد والتسخين والتطرّف وشدّ الحبال إلى آخرها، مثلما فعلت مراراً وتكراراً في ملفات وقضايا إقليمية ودولية، كما ينطبق على حالات التهدئة أو التخفيف من حدّة التهور والحماقة في الكثير من المواقف، وإن كانت كلمة تخفيف لا تتطابق مع حقيقة الموقف، أو على الأقل لا يتم الأخذ بها في القاموس السياسي لنظام أردوغان.
وعلى هذا الأساس تبدو مقاربة المواقف المتدحرجة في سياسة تركيا اليوم، عملية شديدة التعقيد من الناحية الظاهرية، لكنها في العمق لا تحتاج إلى ما يفك ألغازها الكثيرة أو ما يستوجب التوقف مطولاً عند مفرداتها والكثير من خياراتها المبنية على أخطاء يصعب على النظام التركي أن يقدم استدارته السياسية من دون أن يقع في المحظور ذاته الذي استعصى عليه، حين غامر بكل أوراقه الإقليمية والدولية ودفع بها إلى سلة الإرهاب والرهان على تنظيماته لتكون قناة تعويمه، حيث المشهد القائم حالياً مقلوب ومعكوس، لكنه يتحرك بالأدوات نفسها، ويتذاكى فيها على الإقليم وما هو خارجه بالوسائل ذاتها، وبالتدحرج السياسي المحكوم بالوتيرة نفسها، والأدهى أيضاً أنه ينقل أوراقه كلها دفعة واحدة من سلّة ليضعها في السلّة الأخرى!!
قد لا تدخل العروض التركية لروسيا - سواء كانت جدية أم تم سحبها من التداول- في إطار المفارقة فحسب، بقدر ما تعكس خيار المغالاة، حتى في العروض السياسية، وتتسم في أغلب الأحيان بشيء من الإفراط والتكلف بالآن ذاته، فالنظام التركي يحاول أن يحمل حجراً أثقل من وزنه بكثير، وأحياناً فوق طاقته السياسية والوظيفية، ما يوصل إلى الجزم بأنه فشل في توظيف حجر الإرهاب حين أثقل منه وعليه، وينتظر العجز ذاته حين يثقل حجر السياسة وفي الطروحات الجانبية التي يعتقد أنها تصلُح للترويج للبوسه الجديد.
ضمن هذا الحيّز من الحراك السياسي.. فإن المفارقة قائمة في سياق التوجس من الطرح ذاته، حين يبدو فجّاً وغير متوازن، ولا يصلُح ليكون المقاربة الفعلية لكثير من الإشكالات القائمة في السياسة التركية، أو أنه الحلّ المنتظر لكثير من المعضلات التي تواجه خيارات نظام أردوغان، وما يتصل به أو للهروب من أزماته وتأزماته، حيث ما يزيد هنا يوازي ما ينقص هناك، وما كان فائضاً عن الحاجة في تبنّي الإرهاب والمبالغة فيه، سيبقى فائضاً أيضاً عن السياسة وعروضها الاستباقية.
في الحصيلة .. يبدو المشهد التركي متأرجحاً بين الخيبة المرتسمة في خيارات نظام أحرق كل مراكبه، وبين تهالك ولهاث من أجل قشّة غريق يحلم أن تكون المخرج من مأزقه، أو تقيه الغرق القادم في حسابات ومعادلات أو تحميه من التخبط وداخل متاهة من العناوين التي تطغى عليها تفاصيلها إلى حدّ الخلط بين الخيار السياسي، وبين التوجه، والمزج بين الكذب حيناً والتهريج حيناً آخر.
الكذبة التركية.. الجديدة منها والقديمة، والإفراط في تقديم العروض المجانية تعيد إلى الأذهان المقولة الشهيرة بأنه كلما كبرت الكذبة انكشفت بسرعة أكبر، والواقع السياسي والميداني يشير إلى أنها كانت كبيرة جداً وليس بمقدور أحد أن يصدقها، والحال ذاته مع الحجر الذي يحمله، فهو من الثقل إلى درجة أنه لن يقدر على حمله، وفي أقل الحالات سوءاً أنه سيتدحرج معه، حيث سيكون من الصعب على نظام أردوغان أن يوقفه، سواء بقي حيث يقف وحيث قدماه تتشبثان ببقايا خيارات الإرهاب، أم فكر بالابتعاد خلف منظومة من الهرطقة السياسية والدعائية الجوفاء..!!
a.ka667@yahoo.com