جاءت بقرار فصل سياسي أو بنص دستوري أضيف يوماً ما إلى الدساتير المقترحة، وجرى العمل به بسلاسة ويسر وبساطة في اليوم التالي على الإضافة، وأن مثل هذه الانتقالة المفاجئة يمكن أن تحدث في جميع المجتمعات فتنقلها من حالة التدين إلى حالة العلمنة بمجرد الفصل القانوني والدستوري بين المؤسسة الدينية والدولة !
وقد نسي هؤلاء أو جهلوا أن القرار السياسي إياه أو النص الدستوري بالفصل وتحييد الدين عن مسار الدولة، هو نتاج حراك ثقافي اجتماعي دام لعشرات السنين.. وربما لمئاتها، تصارعت فيه الأضداد طويلاً، انتصر بعضها في مواجهة البعض الآخر جزئياً وانتكس بعضها الآخر في مواجهة بعضها الثالث جزئياً أيضاً، وأن هذا الحراك الثقافي الاجتماعي كانت ميادينه وجبهات الصراع فيه تتموضع في العقلين الفردي أولاً والجمعي الحاصل ثانياً، وأن الوصول إلى ذلك القرار السياسي أو النص الدستوري كان نتيجة متسلسلة صعوداً لتطور مكونات العقد الاجتماعي الذي بلوره الناس بالمراس والتجربة فيما بينهم من جهة وفيما بينهم وبين الدولة من الجهة الأخرى ؟
لا بل نسي هؤلاء أو جهلوا أن ذلك الحراك الثقافي الاجتماعي بما انطوى عليه من انتصارات وانكسارات وتطورات ونتائج اجتماعية جرى الاتفاق عليها، حمل دائماً وأبداً خصوصية المجتمعات الأوروبية في نسوغه المغذية، وكذلك هوية الأوروبي الكاملة سواء في ثقافته أو انتمائه أو وجدانه العام وضميره الجمعي، وبما يعني ببساطة أن هذه النتائج إنما هي حصراً لهذه المقدمات دون غيرها، وأن مقدمات مختلفة في مجتمعات أخرى لن تتمكن من الوصول إلى نتائج الحراك الأوروبي بالضرورة.. وحتى لو سارت على الخطا التاريخية لمقدمات المجتمعات الأوروبية !
وفضلاً عما ارتكبه ناقلوا مصطلح « العلمنة « ومعربوه من خطأ المساواة العمياء بين العلمنة والإلحاد، فإنهم توهموا وأوهموا الآخرين بأن الديمقراطية بوصفها ناتجاً سياسياً للعلمنة، هي مسألة محض إجرائية يمكنها أن تتكفل وحيدة بنقل السلطة سلماً من فرد إلى فريق، وأن تعيد نقلها إلى ما شاء الله لمجرد أن تتوافق النخب السياسية على تحكيم هذه الإجرائية فيما بينها !!
الشعارات، كالحرية أو المساواة مثلا.. ورغم بريقها الآخاذ بالنسبة إلى كل العيون دون تمييز، لا تعني شيئاً على الإطلاق عندما تختلف مكونات الحراك الاجتماعي والثقافي الساعي إليها بين مجتمع وآخر وبين ثقافة وأخرى وبين وجدان جمعي وآخر، بل إنها تعني شيئاً ما في هذا المجتمع.. لا تعنيه هو ذاته بالضرورة في مجتمع آخر!
وإذا كان ثمة من تلمع هذه الشعارات في عينيه فيطمح إليها، فإن عليه أن يجعل من مكونات حراكه الاجتماعي والثقافي، بالتحليل وإعادة التركيب، مطابقة لأمثالها في المجتمعات الأوروبية وسائرة في ذات الدروب التي سلكتها.. فهل يمكنه هذا، وهل يستطيع أن يفعل ذلك مع ما يعنيه هذا الفعل من خروج نهائي من ثقافته وهويته وانتماءاته ؟
الادعاء بإمكانية فعل ذلك، وخاصة في المجتمعات العربية الإسلامية، لا يعني سوى محاولات من التلفيق والترقيع والتلوين.. ولا تبلغ حتى التوفيق القسري غير المجدي، وإلا فما على المدعين بذلك سوى اجتراح مشروعهم الخاص.. المعقول وليس المنقول !!