ورغم أن النزوع الأميركي المبيّت للصدام لا تخطئه العين فإن الترتيبات الأخيرة للأولويات الأميركية في المنطقة بعد قمة كامب ديفيد قد سخنت من حضوره، وأدرجته على أجندات السياسة الأميركية بعد المراجعة الذاتية لعمل أدواتها في المنطقة، والذي يعكس إصرار الرئيس أوباما على التمسك بما اعتبره ذات يوم مجرّد فانتازيا.
غير أن الاقتراح الأميركي أو المبادرة بهذا الاتجاه يحملان في طياتهما ما يكفي من المؤشرات على أن أميركا تريد تقطيع الوقت المتبقي تحت مظلة السياسة أكثر من ميلها إلى العبث بمكونات المشهد الدولي أو الاحتكام إلى عسكرته ولو مؤقتاً.
على هذه القاعدة تتحرك فرضيات مختلفة، وتتشارك في الفكرة ذاتها سلسلة لا تنتهي من المجردات اللفظية على تقاطعات وحسابات تُشهر الرغبة الأميركية في تعديل قواعد الاشتباك على المسرح العالمي، وإن ظلت متمسكة بالإبقاء عليها مشتعلة ومتأججة في المنطقة، تحت شعار إشغال تلك الجبهات إلى أن تتغير المعطيات، أو ريثما تعيد أوداتها في المنطقة تموضعها في متاريسها على ضوء ترتيبات أدوارها الوظيفية في الحقبة الأميركية التالية.
هذا كله لا يعدّل في مناخ الاصطفافات الموازية، ولا يرسم في أفقها أيَّ تغييرات عملية يمكن أن تساهم في بلورة معايير إضافية، بحكم أن الاصطدام القائم على الأرض وفي السياسة وخطوط التماس المفتوحة على طول جبهة المواجهة لا يترك المجال للتردد ولا يبيح الاسترخاء والتثاؤب على خطوط النار المتنقلة في كل الاتجاهات، والمتخمة في مصيريتها وإن احتملت الخلط بين الممكن والمتاح، والمزج بين الافتراضي والواقعي.
بهذه المقاربة لا تبدو الرؤية الروسية بعيدة في أحكامها عن الصيغ التقليدية المتداولة، ولا عن نظرتها التي تشكلت، خصوصاً بعد التجارب التي خلصت إليها على مدى السنوات الماضية، وإن كانت تدرك مسبقاً أن السياسة الأميركية تمتلك ما يكفي من البراغماتية للاستدارة حين تشعر أنها تقترب من الحائط المسدود، رغم أنها لا تعوّل على ذلك، ولا تستكين لبعض المؤشرات الخاطئة وأحياناً المتضاربة، التي تُملي مزيداً من الحرص على مكونات أي طرح أميركي وأي أفكار يمكن أن تغوص فيها.
فالمؤكد أن الحديث بمنطق الصفقات لا يستوي بأي حال مع الواقع، ولا يمكن المراهنة عليه أو الدخول فيه، ما دامت المواجهة مفتوحة على مصراعيها أمام ضجيج الأزمات المتفجرة على خط التصادم الأميركي الروسي، وأقصى ما يمكن ان تحركه المباحثات في نهاية المطاف لا يتجاوز لعبة تدوير الزوايا، التي يختلط فيها ظاهر الأمنيات مع باطنها، وأن النيات لا تكفي لإعادة إدراج ما يمكن تسميته بخطوط التهدئة إلى روزنامة العلاقات الثنائية، ما دامت أميركا تؤكد كل يوم نزوعها نحو المواجهة المفتوحة، ليس في النطاق الإقليمي المحكوم بضوابط المصالح والأطماع، بل أيضاً على المستوى الدولي، حيث الوقت لم يحن.. والتسويات لم تنضج كفاية.
على خط مواز وإن كان من منظور آخر، تبدو روسيا عازمة على إعادة تشبيك علاقاتها ليس على نطاق التحالفات المعمول بها في السياسة، بل ينسحب الأمر على عسكرة ذلك التشبيك الذي تترجمه ولو بشكل رمزي المناورات المشتركة مع الصين في المتوسط، والتي تُعتبر في الحسابات العسكرية والسياسية سابقة لم تحصل حتى في ذروة الحرب الباردة، ولا في قمة التجاذبات على مستوى المشهد العالمي.
مشاورات موسكو ترسم خطاً سياسياً فاصلاً في ظاهرها، لكنها تبقى أقرب إلى محاولة ضبط الاستطالات التي تهدد بتفجير الموقف في وقت لا تحتمل المنطقة المزيد من الانفجارات، أو هي تدخل في نطاق إعادة ترتيب نسق التجاذبات القائمة.. وإعادة ترسيم حدود الخلافات، حيث الوقت لم يحن لوضع آخر ما انتجته إحداثيات الخرائط على طاولة أُعدت بشق الأنفس، ولا يزال الطريق طويلاً ومديداً وتحول دونه متاريس الأدوات الأميركية الداعمة للإرهاب.. وتقطعه خنادق التوظيف الأميركي لمنتجاته الإرهابية المفتوحة وتحول دونه حقول من ألغام السياسة والمصالح والأدوار والأطماع.
a.ka667@yahoo.com