بيني وبين أرصفة (الحلبوني) ودّ قديم وهوى لا أستطيع أن أغادره أبداً، كان المشوار اليومي حجاً إليها، استطلاعاً وبحثاً عما تقدمه أرصفة المعرفة من قديم جديد، تقت إلى هذا الحج اليومي، وكان لابد من العودة إلى رحيق الورق وكم أدهشني أن الكثيرين كتبوا يوم 12/12/2012م هذا يوم مميز، فافعل شيئاً ما لمن تحب.. لم أجد إلا أرصفة الشوق أغذ السير إليها... ساعة ونصف الساعة هي الفترة الزمنية التي استغرقها المسير.. أرصفة أعبرها، أشم فيها عبق المدينة، أطالع وجوه الذين يمرون مسرعين، مهرولين، متأنين أقرأ في الوجوه ملامح حزن يخفي وراءه ألف سؤال وسؤال.. أرى ندوباً غائرة بعضها كاد يطمس وهو من بقايا الماضي الحزين، وبعضها الآخر يعيد نزف قطرات حزن ودم... لا يكاد أحدنا ينظر إلى الآخر إلا خلسة يداري ما تشي به قسماته.. كلنا أصبحنا عرافين، قارئي ملامح وجوه. لم نعد ننتظر بلهفة ما يجود به (كذابو الطالع) ومالنا ننتظر ونحن نراه - طالعنا- نضعه، يضعه لنا غيرنا، نقبله، نرفضه، نهذبه، أشياء تخصنا نحن، كل واحد منا عالم من الماضي والحاضر وينتظر غده..
رأيته بين المئات من العابرين قادماً من صوب المخبز في القمامة.. رجل يقارب الستين من عمره يمشي الهوينى وقد أعياه التعب، أضناه الوقوف، خلسة يبتسم يداري ما معه يلتفت بلهفة يمنة ويسرة، كأنه قد اقترف موبقة ما كبيرة أو ربما يريد أن يخفي شيئاً ما يخاف أن يراه الآخرون، أن يسلبوه إياه.. من بعيد أراه نقترب كلانا من بعض كل من اتجاه، نختزل المسافة ليست بعيدة أبداً لكن محاولة اكتشاف كنه وحال هذا القادم جعلتني أشعر أنني في سباق طويل طويل.. ألف احتمال مر في خاطري وأنا أراه مقترباً، ما له، ما به؟!
وجهاً لوجه أصبحنا في هذا اليوم المميز.. ابتسم لي.. حييته.. بادهني بسؤال لم يعلنه: هل تعرفني؟ لم تحدق بي هكذا..؟!
لم أنبس ببنت شفة، وهو لم يخف دهشته من أسئلتي الصامتة.. أسئلة الضجيج.. وكان جوابه أكثر دهشة ألا ترى أني أحمل أرغفة خبز.. حصلت عليها بعد انتظار ساعات وساعات.. أتيت باكراً، أعياني الانتظار لكني حصلت على ما تراه.. (نعمة الله يديمها) أسأل بمرارة: وكيف ستدوم ونحن نحرق بيادر قمحنا، كيف نحفظها ونحن نلقي بها في أفواه الآخرين؟!
أحقاً هم من سلالة البشر الذين يسرقون لقمة العيش ويبيعونها للعدو؟! كيف لابن وطن أن يكون ذئباً على أهله واخوته.. حتى الذئاب تؤذي حتى تشبع، تترك ما يزيد عنها.. هؤلاء فصيلة جديدة من الدرك الأسفل في قائمة الحيوانات المفترسة؟!
آه.. ما الذي قلبنا من حال لأسوأ حال؟! بالأمس كنا نفسح الدور في اصطفافنا على المخبز لكل من يريد سريعاً شراء ربطة واحدة أو كمية قليلة.. مالنا اليوم من منتصف الليل نرابط على الأرصفة أمام المخابز؟ ما الذي يجعل شباباً بعمر الورد يقفون في الطابور وحين يصلون الكوة يصيحون من يشتري دوري؟!
نغرق في بحر الظلمات نأكل لحم بعضنا بعضاً ننهش مكاننا.. عذراً كم كنت فخوراً بك أيها السوري أي سوري، أينما كنت، ومن أي انتماء لكني اليوم أشعر أن دائرة الاعتزاز تضيق وتضيق، أحقاً نحن ورثة حضارة عشرة آلاف عام من الحضارة والإبداع؟!
عبر كل ذلك بلحظات تيار من القلق من الخوف من الارتقاب، خوف من شيء قادم نطحن في دوائر رحاه..
لم يعد بإمكاني أن أعبر أو أبتعد عنه اتسمر أمامه وأسأله وهذه المرة بصوت مرتفع: مبارك يا عم.. هل تسمح لي أن ألتقط صورة مع أرغفة خبزك الطرية؟! تطفر دمعة حارقة... أسرع قبل أن يخرج بركان حزنه.. لا أنظر إليه على بعد مئة متر أراه وقد جلس على الرصيف.. لم تقو قدماه على حمله، كأني به يقول: ألا بئس الزمن الذي جعلني أعيش لأحسد على أرغفة خبز أحملها ونحن الذين أطعمنا العالم وكانت أرضنا إهراءات روما.. نحن الذين تخبز أمهاتنا على قارعة الطريق، والخبز لكل غاد ورائح نحن الذين نتقاتل على رغيف؟!
أبعد هذا هل من حدث مميز بكبائره، بفظاعته.
أيها السارقون ماضينا وحاضرنا وغدنا أنتم عار على الإنسانية قد تكونون بهيئة بشر لكنكم في الدرك الأسفل حتى من سلم الكواسر..
d.hasan09@gmail.com