لم يعد يستجيب لمصالح الدول الكبرى في استراتيجياتها البعيدة وفق سياقات العولمة الاقتصادية وتداعياتها على العلاقات الدولية، وإذا كان العنوان الإيديولوجي هو الذي وسم الصراع بين القوى الكبرى منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط جدار برلين عام 1989 فإن العنوان الاقتصادي هو الأكثر بروزاً منذ ذلك التاريخ، والمثير للاستغراب أن الدول الكبرى، وخاصة مجموعة الثماني أخذت تتعاطى مع الأحداث التي تجري في العالم وكأنها حكومة عالمية جديدة، تمتلك كل ذلك الإرث الاستعماري الذي لم يغادر بُعد التفكير السياسي المتأصل في الوعي الجمعي الغربي المحكوم بثنائية المركز والأطراف، وبما لا يدع أي مجال للشك أننا أمام عالم علاقات دولية جديدة تسيطر عليه وتقوده عقلية استعمارية بامتياز، تعكس مصالح الشركات العملاقة الكبرى في كل من أميركا ودول الغرب الرأسمالي وتعمل على استثمار فائض القوة لديها لفرض رؤيتها السياسية ومصالحها على دول العالم، بل وتعمل على مصادرة الإرادة السياسية للدول تحت عناوين المساعدة الاقتصادية والتحول الديمقراطي وغيرها من أكاذيب خدعت بها شعوب العالم لفترات طويلة، ولاتزال تجد لها مصداقية عند البعض بكل أسف.
إن ما يجري في عالمنا اليوم يشير بشكل جلي إلى أن ثمة سعياً واضحاً لدى الدول الكبرى وبالتحديد أميركا وأوروبا الغربية لإخراج منظمة الأمم المتحدة -على محدودية دورها - من دائرة التأثير السياسي وإعطاء إشارات إلى الدول الأعضاء بمجلس الأمن مؤداها أنها إن لم تستجب وترضخ للوظائف الجديدة لهذا المجلس (أي تحويله إلى ذراع عسكرية وسياسية لها) فإنه في طريقه للتقاعد السياسي وإن البديل سيكون الهياكل السياسية الأوروبية الأميركية، أمثال حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي والدول الثماني ومجلس حقوق الإنسان وصندوق النقد الدولي والمحكمة الجنائية الدولية ووكالة الطاقة الذرية وغيرها من هيئات دولية هي أساساً نتاج حالة
عكستها إرادة المنتصرين بالحرب العالمية الثانية ولا يمكنها الخروج عن إرادتها أو توجهاتها السياسية.
إن ما صدر من تصريحات وقرارات وتوجهات من قمة الدول الثماني مبعث للكثير من القلق، حيث أصبح التدخل في الشأن الداخلي لدول العالم الثالث سياسة علنية وتقدم نفسها صاحبة صلاحية عليها بفرض أنها ناقصة الأهلية لا تستطيع القيام بمسؤولياتها الوطنية فتنزع شرعية ذلك الحاكم أو تشكك فيها وتمنح بركاتها لغيره في معيارية استنسابية بامتياز تحكمها المواقف السياسية ودرجة الانخراط في مشاريعها الاستعمارية الكولونيالية واستجابتها لمصالحها الاقتصادية ومستوى تأديتها لوظيفتها تلك، والأكثر من ذلك أفصحت تلك الدول عن مشروع جديد تحت عنوان (مساعدة الديمقراطيات الجديدة) أو ما يسمونه (الربيع العربي) الذي يريدون مصادرته والالتفاف عليه وجعله أميركياً أوروبياً من خلال إطلاق مشروع مارشال جديد للمنطقة كثير الشبه بمشروع مارشال الذي أعقب الحرب العالمية الثانية بهدف إعادة اعتمارها، ما أتاح لأميركا تحويله إلى مظلة أمنية وسياسية صادرت فيها الإرادة السياسية لأوروبا، هذا المشروع الجديد هدفه الالتفاف على ما حدث في المنطقة من تحولات يتيح لهم السيطرة على حكوماتها والقبض على مقدراتها، ولا شك أن ثمن ذلك هو استمرار المصالح الأميركية الأوروبية وضمن أمن الكيان الصهيوني والنأي به عن تداعيات ما جرى بالمنطقة من تحولات لا تصب في مصلحته.
إن ما يستوجب التحذير منه هو انسياق بعض الحكام العرب وراء ذلك المشروع الهيمني بل وتقديمهم الدعم له مدركين أو غير مدركين لأبعاده الخطيرة وتأثيراته على المنطقة بكل مكوناتها السياسية والبشرية ومستقبل شعوبها وأمنها الإقليمي، وهذا يرتب عليهم مسؤولية تاريخية لا يمكن لأي كان التحلل من عواقبها، وهنا تبرز الحاجة لتحالف إقليمي يترافق مع حراك شعبي مقاوم لذلك المخطط الجهنمي الذي يريد استعمار المنطقة بوسائل جديدة ومخادعة.
khalaf.almuftah@gmail.com