والتعديلات الإضافية التي فرضتها المعايير السياسية المتناقضة، وأملتها إلى حد بعيد المصالح الدولية ومعادلات الهيمنة الغربية، وخصوصاً في ظل التشوهات العديدة التي لحقت بالوضع العربي الناتج في جزئه الأكبر من المحاكاة الافتراضية للمشروع الاستعماري وتورماته المرضية.
الواضح أن وعد بلفور استطال إلى الحد الذي أفرز سياقات إضافية من الوعود الجانبية، التي لا تقل خطورة، وأحياناً كانت تتفوق على النص الأصلي في الكثير من تفاصيله التي جاءت إلى حد بعيد متطابقة مع الأطماع التي رسمت خطوطاً منحنية من التفاهمات السابقة لها، والتي كان بعض العرب جزءاً من منظومة تلك الوعود، حتى إن بعضهم ساهم في صياغة جزء كبير منها وبما يفوق وعد بلفور ذاته، ولا سيما تلك التي كانت تتقاطع مع الدور الوظيفي لبعض الأدوات التي ظهرت لاحقاً كجزء أساسي من منظومة العمل لخدمة المشروع الغربي.
في الصراع المحتدم بين النص وتفرعاته الجانبية كان الاحتكام يؤول في نهاية المطاف إلى تأويلات وتفسيرات تذهب جميعها لخدمة المشروع الصهيوني، وباجتهادات تأتي من خارج النص الذي فرض تفسيرات جانبية كانت تنحو أيضاً باتجاه تخليصه من كل الشوائب والاحتمالات، التي تعيق تحوله إلى مشروع استعماري بلبوس إضافي يحتاج إلى تحضير البيئة السياسية الحاضنة، والأرضية القابلة لاستيعاب ما يفيض منه على حساب الجوار الجغرافي، ليكون احتلالاً إحلالياً، يفرض إحداثياته على خريطة المنطقة وما يجاورها.
فإذا كانت بريطانيا رأس المشروع وتتحمل وزر الخطيئة التاريخية المنصوص عنها في مختلف المقاربات السياسية، فإن بعض العرب يتحمل وزر وذنوب ما تبعها وما لحق بها، لأن التشرذم السياسي الناتج عن مفرزات المشهد اقتضى أن يكونوا في الضفة الأخرى التي حاولت أن تضفي الشرعية على الممارسات اللاحقة، أو في الحد الأدنى توفير الغطاء السياسي، وإيجاد المبرر أو الذريعة ليبقى المشروع الصهيوني في حالة من الاستمرارية، التي أمنت له أوراقاً إضافية راكمت من خطورته وكارثيته، رغم الإدراك بأن الظرف التاريخي الذي حكم مقتضيات المشروع كان جزءاً من المبررات التي يسوقها البعض، ويطرح المقارنة من باب أن المشروع الذي مر قبل مئة عام، يمر اليوم ما هو أخطر منه، وأمام الأعين وبدفع من بعض العرب، وبخدمات مجانية..!!
يصطف الجالسون في الردهات الجانبية للمشهد العربي لمحاكمة مئة عام مرت، من دون أن يقترن بأي مراجعة عملية لظروف ومعطيات حقبة زمنية فرضت شروطها ومعطياتها على الواقع العربي في ذلك الحين، وتفرض إملاءاتها على الواقع الحاضر بكل تشرذماته والتشظيات الناتجة عنه، فيما المقارنة الظالمة تجتهد في طرح إشكاليات ومراحل مختلفة من السياق السياسي الموازي، الذي يكاد يُخرج الظرف التاريخي من شروطه الموضوعية، وينصّب نفسه حكماً على مجريات الأحداث، وأحياناً مفسراً للتطورات لتكون على مقاس التمنيات المغلوطة من جهة، ووفق رغبة المشروع الاستعماري من جهة ثانية.
ويبقى في نهاية المطاف أن مئة عام تسجل في أوراقها المهملة ما هو أهم مما أنتجته سنوات الخيبة العديدة، والانكسارات المتتالية في تخليص فلسطين من جرم الوعد وجرائم التواطؤ المسبق، لتضع أوزارها على التاريخ المحكوم بسياقات من خارج الهامش، ولتضفي على المشروع الصهيوني بعده الدولي كجزء من المنظومة الاستعمارية، التي فاضت في عدوانيتها إلى حد الخلط بين المكون الجغرافي وما جره، والمكون التاريخي وما حمله، حيث الفارق يتسع ليصبح مجرد شبهة في سوء التقدير، أو ربما بمساحة الوقت المستقطع لتبقى الغفلة فينا مئة عام على وعد بلفور.
a.ka667@yahoo.com