الذي سيصبح أي حديث معه أو من دونه مجرد إضافات لا معنى لها، في زمن تخور فيه القيم والمبادئ، وتتحول الشعارات إلى مقصلة للحياة، تجتث الوجود الإنساني من جذره، وهي تلوّن الحقائق حسب المصالح، وتصنّف الوقائع وفق الأطماع.
وحدها دموع السياسيين -وتحديداً الغربيين منهم-كانت تستطيع أن تؤكد الطابع العدمي لأي محاولة، حيث لم تعد ترمز إلى العجز فحسب، بقدر ما تشي بالرغبة في الاستمرار بلعبة العدم حتى إشعار آخر، وهي ترسم طوقاً من المغالاة في النفس البشرية التي عادت لتغوص في قاع أوجاعها المرة الممزوجة بخيبة طويلة، تتجرع كأس علقمها من اجترار مواقف تبدو فيها الإنسانية الجزء الوحيد المفقود.
على هذه القاعدة لم تعد صورة الطفل السوري مجرد رمزية لمشهد من الموت العابر للقارات، حين أعلنت الأرض السورية عجزها عن استيعاب كل هذه المساحات من الموت التي فرشتها أمامهم مجازر الإرهاب وتنظيماته الممهورة بقرار خليجي وإقليمي.. باتت أوحاله تغطي كل شيء، بل أضحت تطبع على اللوحة العالمية ملامح الخزي والعار، وهي تأخذ من الأفواه الغربية كلمات ومواقف تُسقط الوجه الإنساني المغلف لسياسات الموت، وهي تعلن إفلاسها عن الاستمرار في رحلة التوجس البشري من القادم.
جدلية العلاقة بين الموت تحت ساطور الإرهاب والموت فوق قوارب الأطماع الغربية وشعاراته الزائفة في تجارة الغرق السياسي لمافيا الحروب ومتزعمي الإرهاب، لا تفرّق في معايير المقارنة الظالمة التي يدفع السوريون ثمناً لها منذ سنوات قاربت الخمس، من دون أن يتحرك الضمير البشري إلا بقدر تلازمه مع لغة الأطماع ومع إشارة الإرهاب بخلافتها وجبهتها وألويتها المنتشرة في الأرض السورية بأذرع إقليمية خليجية تركية، تحت عباءة من الحقد على هذا الوجود الذي تحوّل إلى مأساة متنقلة، تزرع الخوف والقلق، أينما حلّت.. وكيفما استقرت.
عشرات الآلاف من الصور القاتلة والمميتة للضمير البشري طبعتها الحالة الإرهابية التي ارتكبتها تلك الأذرع برعاية غربية مباشرة، ووثّقتها إلى حدّ التخمة مراكز العمل الإنساني والحقوقي والأممي، وتحركت في أصقاع المعمورة، وكانت تكفي لرسم وجه إضافي على لوحة الموت الذي يحصد السوريين في كل الاتجاهات ومن كل الأنواع، لكنها لم تصلح وجهاً واحداً من وجوه المحاكاة الظالمة التي تستفز العقل البشري، وتحرك عواطفه الإنسانية على أجنحة الموت، لأن أوروبا كانت تحصي أرباح أطماعها وتعد مكاسب توظيفها للإرهاب الإقليمي، ومعها أميركا ليكون على مقاس مصالحها متسلحة بهذه النظم من التخلف والتطرف وبؤر الدمار والخراب البشري، التي تدفع بها إلى سوق النخاسة السياسية على طاولة المبازرة بين صفقة تسليح هنا وصفقة للموت الإضافي هناك.
في الدموع السياسية وحالة العجز المزمنة ثمة ما يدفع إلى الجزم أن الحلول والمقترحات تبدأ بالمقلوب، وتنطلق بالمقلوب.. وتبني افتراضاتها وملامح وجودها على المقلوب في العقل والمنطق، حيث الأصوات التي تسأل عن الأصل والسبب تنزوي خلف ستار الخديعة المستمرة، فلم نسمع عن صوت غربي واحد ينطق بالحقيقة المرة أن هذا الموت هو نتاج ما اقترفه ساستهم وعلاقتهم المشبوهة برذائل المال النفطي، وما أفضت إليه من موجة إرهاب لم تعرفها البشرية في تاريخها، ولا تزال تعوّل على ما تبقى من أدوات للموت والقتل.. العابر منه أو المقيم.
الصدمة ليست في بكائية يتقنها ساسة الغرب، ولا في تهويل يجيده أرباب الإرهاب ومتعهدوه، ولا في تجاويف التقارير التي تمطرنا بها منظمات كذبت وتكذب اليوم حتى في الصورة التي ترسمها، بل هي في معايير الموت ومقاييس المأساة والتباين الحاد بين الجزئيات والعناوين، والخطر الداهم من تسويق منقوص للحقيقة، وصمت مطبق حول أسبابها، ومسؤولية مشتركة وأساسية في تضخيمها ليتحوّل المشهد من مقاربة مخاطر الإرهاب إلى التوقف عند تلك البكائيات الصمّاء.
المأساة هنا لا تتجزأ، والأسباب لا أحد بمقدوره أن يتجاهلها أو يغيّب الحديث عنها، والمسؤولية فيها لا تنفصل عن واقع الممارسة التي كانت ترسمها صفقات الغرب على حساب الشعوب، والتي بات فيها الإرهاب بأفعاله ومموّليه وراسمي خططه وراعي تنظيماته الوجه المتفرّد للموت، الذي ينتظر شعوب المنطقة ومستقبلها ويُراد له أن يكون على مقاس القتل المنظم، حتى لو اختلفت أو تباينت أضرحة الموت في الطريقة والمكان.
وجوه الموت لا تختلف في النتيجة، وقد لا تتباين في الأسباب، لكن في التعاطي ثمة أسئلة صعبة وإجابات مريرة تنتظر أحكامها القاسية على الغرب، كما تفرض شروط التحدي على الشرق، وحدها مخازن القتل المبرمج على أذرع الإرهاب تبقى المعيار للمواجهة، وقد أماطت اللثام عمّا تبقى من خزي وخيبة في محاكاة غربية أكثر بؤساً من منطق ساستها.. حيث ينتصب السؤال الأكثر حرجاً : أليس من العجب بمكان أن يجتمع الغرب والإرهاب بتنظيمه وجبهته وسلالة بقية مشتقاته على المقصلة ذاتها التي تجزّ حياة السوريين..؟!
a.ka667@yahoo.com