والأهم من ذلك ما بدر عن الأوروبيين من رضا, لم يتوقف عند حدود القبول بما قدمته رايس, إنما أيضا بالموافقة على منطق الدفاع عن الاستمرار في التعذيب كأحد الأساليب المشروعة أميركياً, وكأن العالم بكل ما لديه يحتاج إلى إعادة نظر في مفاهيمه على ضوء ما تطرحه الإدارة الأميركية.
ولعل التسريبات الشحيحة عن الأدلة الأميركية على ما اعتبرته إطارا لفهم ما يجري, يجعل من العسير جدا قراءة مبررات القبول الأوروبي, إلا في إطار البحث عن ذريعة لامتصاص الغضب الشعبي الأوروبي الذي بدا مصدوما من الممارسات الأميركية, ومذهولا من الانتهاك لأبسط قواعد السيادة الأوروبية.
وثمة من راح يروج لمقولة إن أوروبا المصدومة بالنهج الأميركي, لم تستوعب بعد دلالات هذه الاستباحة, وليس بمقدورها تحمل تبعات, أن تقول للإدارة الأميركية مغزى الامتعاض الذي يجتاحها دون أن يترافق بردود فعل لها منعكساتها على العلاقة المهزوزة أصلا مع الأميركيين, وبالتالي كان الحل الوسط تسويق ذلك على أنه فهم أوروبي رسمي لمقتضيات الفعل الأميركي.
غير أن عدم الربط بين السلوك الأميركي وبين السياسة الحالية لإدارة الرئيس بوش لم يكن مستساغا من قطاعات واسعة من الأوروبيين, ولاسيما لجهة الإقرار المسبق بأن كل ما برز حتى الآن يعكس رغبة أميركية في تحويل أوروبا إلى حاضن يستوعب كل حالات التجاوز في الممارسات الأميركية.
وهذا ما يمكن فهمه في أسباب التكتم على الحلقة المفقودة التي يتم البحث عنها لفهم الدوافع الحقيقية لقبول أوروبا الرسمية, بما يرفضه الشعب الأوروبي وخصوصا بعدما كانت التسريبات تتحدث عن مهمة شاقة تنتظر رايس في أوروبا.
وإذا كان الشرخ واضحا بين ما تقبل به السياسة الأوروبية وتمارسه على أرض الواقع, وبين ما ينتظره الشعب الأوروبي فإنه بدا هذه المرة أكثر سخونة, وينطوي على مفارقات صارخة, لا تكتفي بالمواجهة مع المنطق بل أيضا مع التاريخ الأوروبي والحضارة الأوروبية ومع ما اعتادت أوروبا على التمسك به وتصديره للعالم.
وإزاء ذلك كان من الموضوعي أن يذهب البعض إلى تفسير جملة من الظواهر في الداخل الأوروبي, ومنها لماذا يرفض مشروع الدستور الأوروبي, وكيف كان بالفعل رفضا للسياسيين ونهجهم أكثر مما هو رفض للدستور, ولماذا أيضا تأخذ الخلافات الأوروبية حد القطيعة بين الدول ,ولماذا تتسم أغلب ردود الفعل حيال الكثير من القضايا بالتشنج والحدية..?!
لذلك بدت التفسيرات متقاربة حول ماهية العلاقة بين طرفي الأطلسي, وإن حدود التبعية الأوروبية لم تتقلص أو تنكمش كما أن ما سمي بالاستقلالية الأوروبية لم تكن أكثر من شعار, أو هي في أفضل حالاتها طموح ما زال هناك الكثير من العمل للوصول إليه وحتى لملامسته..!!