فإن هذا العالم قد أصبح كما يقولون (قرية صغيرة)، وبما أنهم -أي قادة العالم- قد أعلنوها عولمة.. وأرادوا أن يعمموها في كل جزء من أجزاء العالم فإن ما يحدث في أي بقعة منه قد يهتز لها العالم بأسره.
لكن العالم رغم ثرائه الفاحش ومليارات المليارات التي يحققها له العلم بخوارقه واستثماراته فإنه يغدو كما يبدو فقيراً..مفتقراً لا إلى الغذاء والماء والدواء فقط كما أصبح شائعاً ومعروفاً في كثير من بلاد العالم بل هو مفتقر إلى أمور أهم وأعظم.. وهي للبشرية أرقى وأسلم.. أي الافتقار الى القيم الإنسانية، وإلى التعاون بين الأمم والشعوب والى تقاسم الثروات والخيرات لا التقاتل والتصادم حولها.. هذا عدا سيادة المادية الجامحة التي أصبحت تصل الى نقي العظام ولا تترك لأحد هناءة السلام وهو في بحثه الدائم وربما المعتدي والمجرم من أجلها.
وهاهي القيم الفردية والأنانية، والأثرة لا الإيثار تقضي على كل رفيع أو نبيل من الأفكار.. فما عاد أحد بوجه عام وشامل يقدم شيئاً لمن هو في قاع الحياة لا ينال شيئاً من المغانم وهل نقول إنه أصبح يفتقد إلى أنسام الروحانية الدينية والى ما أوصت به الشرائع السماوية قبل القوانين الوضعية؟، وعلى هذا فإن الانسان الذي نال حظاً من الايمان وارتعش منه الوجدان فإن عليه أن يحافظ على مبادئه في التعاون والتراحم وفي كسر هذا السيف الحاد والقاطع الذي يفتك بالبشرية.
هل يحتاج العالم إذاً إلى إعادة النظر في قيمه وفلسفاته ونظرياته كلها وأولها الاقتصادية؟، هل هو بحاجة إلى أن يستذكر تاريخه البشري ليقف أمام معالم بارزة كانت فيها أمثلة من شعوب وأمم حفظت الضمائر والذمم فارتقت الى أعلى القمم وظلت نماذج يتغنى بها الفقراء كما المبدعون والشعراء، والأسفار القديمة والسيَر العظيمة تختزن ذلك وشواهدها ما تبقى من آثارها على الورق أكثر منه في الضمائر.
أما الظواهر التي تدل على هذا الافتقار فهي هذه الثورات التي تشتعل هنا وهناك في أرجاء العالم، وأبطالها الفقراء والمعدمون والمهمشون الذين أصبحوا ينظرون بأعينهم الى المستويات التي يعيش بها سواهم فلا هم قادرون على أن يكونوا مثلهم، ولا غرماؤهم يتيحون لهم الفرصة لإنقاذهم أو مساعدتهم، وها هي الأمثلة تفور وتثور وآخرها ما يحدث في أعرق مجتمعات العالم وهي بريطانيا وعاصمتها بالذات.
وإن نظرة ولو كانت سطحية الى ما يجري في كل ركن من أركان كرتنا الأرضية تؤكد أنها انفجارات قد تتحول الى ثورات لا يعرف أحد مداها ولا عقباها، وإذا كان العلم هو الذي فتح هذه الآفاق فلماذا لا يعود مشتبكاً معها ليضع حلولاً ولو جزئية لمشكلاتها؟ لكن العلم هو أيضاً مدان بشبكاته من كل الأشكال والألوان، لا تنعدم مسؤوليته في جانب وتبرز سائر الجوانب كما في المرض والصحة مثلاً فهو يستخدم الضار كما يستخدم النافع، ويستبعد بما هو خيّر بما يؤدي إلى الشر والفواجع، وما قصص الأسمدة والأغذية والأدوية ببعيدة عنا وقد أسلمنا زمامها لمن يجب أن يكونوا مسؤولين عنا وعنها.
وإذا كانت تلوح من بعيد بعيد ومن أزمة سحيقة أساطير وخرافات، وقصص دينية تلمودية وتنبؤات.. أو أخرى من بوذية وسواها تقول إن العالم سينفجر من أجل أن يهبط المخلص أو المهدي المنتظر أو المسيح نفسه فيسود العالم السلام وتعم العدالة بين البشر فإن هذه الأفكار يتم تناقلها كما لو أنها من الأسرار، إلا أنها تترك آثاراً لا يستفيد منها إلا الشيطان الذي يجهد في التفريق بين الناس لتشتعل الفوضى ويستعصي الخلاص.