وقد تتضاعف أمامنا الكلمات.. أقول بينما نحن كذلك والأمل لا يزال يراودنا في ألا تحوّل هذه النيران أوطاننا الى أرض محروقة بل الى أرض محروثة تنبت فيها السنابل.. ويغمرها العشب والزهر.. فإذا بنا نتوزع بين شاشة وأخرى وكأننا نقول للذين حولوا صراخهم الى مطاليب معقولة ومفهومة أن تحولوا أذرعكم الى فؤوس تبني بيوتاً آمنة لأجيال روعتها أحداث مفجعة ومؤلمة.. وكأنما تعيش في كوابيس حتى لم تعد هذه الأجيال تجد لها منفذاً سوى الاندماج في كل مستوى من هذا الاحتجاج.
وأنا مع من حولي من السوريات الواجفات قلوبهن على الوطن ومن فيه.. ولا تفتر عيونهن عن السؤال أو البكاء.. نتوقع بين لحظة وأخرى أن تنقلب بنا الأحوال فنبعد عنا شياطين الشر التي تفرق بين الأخ وأخيه.. وبين الأب وبنيه.. وتترك الامهات والزوجات بين اللوعة والحسرات.
وها أنا فجأة وبين تسارع موجات الاحتجاج أتوقف عند قناة فضائية.. وأظنها عربية.. تنقل مشاهد من احتجاجات ومظاهرات اسرائيلية.. فأحاول أن أتفرس في وجوه هؤلاء الذين يسحبون أقدامهم في تظاهرة مفتعلة ومبرمجة.. كأنهم يريدون أن يقولوا أو أن يقال عنهم أنهم جزء من هذه المنطقة التي تغلي وتثور لتصحيح أوضاعها حتى الاقتصادية منها.. أو كأن لهم الحق في أن يتذمروا من شح الموارد بعد أن أطبقوا على أخصب بقاعنا المثمرة.. وعلى أجود مناخاتنا الخيّرة.. تتدفق فيها المياه العذبة الرائقة فإذا بهم بكل وقاحة وجرأة على قوانين الأرض والسماء لا يقيمون المستوطنات فقط بل يطالبون بالمزيد منها حتى في القدس الشريف. وكان عجبي أكبر أن بعض المحطات الفضائية لا تنقل هذه المشاهد بحيادية بل بحيوية ودفاع عن حق كل مواطن عن أرضه بحرية لا لشيء بل للتأكيد أن هذه الأرض أرضهم.. وأنهم راسخون فيها رسوخ الشمال الافريقي أو المشرق العربي.
وربما تساءلت: هل هذه خطوة أخرى في طريق الإجرام بحق شعوبنا تتلوها خطوات؟.. فإذا بنا بين يوم وليلة كما حصل في نكسة حزيران نفيق فلا نجد أرضأ طيبة عزيزة قد سلبت منا كما الجولان.. وربما ساقتهم أطماعهم لأن يعتبروا أجزاء من لبنان، أو من سورية، أو من الأردن امتداداً لما يدّعون أنه وطنهم تأكيداً لما ورد في أساطيرهم بأن كل أرض تطؤها أقدامهم هي لهم.. فماذا نقول وأقدامهم تجوب العالم كله.. ونفوذهم يمتد في القارات الخمس وكأنهم نسوا أنهم سلالة التشرد والشتات واللهاث وراء الحصول على أحد الغيتوات.. وقد يحلمون بمملكة في اسرائيل بينما كانوا لا يعرفون إلا الغيتوات يتسللون إليها عبئاً على الدول والحكومات ولا همّ لهم إلا مجرد البقاء ولو على أرض الشتات.
والتاريخ قديمه وحديثه يعلمنا أن حقوق الشعوب لا يمكن أن تبيد ولا أن تصادر من أصحابها في أي استعمار جديد.. وبما أن هذا الاستعمار لم يكن له شبيه في التاريخ فإن أسس بقائه أقل بكثير من أسباب زواله.. والأوطان لا تبنى بقرارات من الأمم المتحدة أو غير المتحدة بل هي حصيلة تضحيات، ودماء، وشهداء، ورسالات من الأرض والسماء تجمع أقواماً بعضها الى بعض لتسمى شعوباً. وها هي التجربة العربية وإن كانت تُشتت أكثر مما تجمع فهي خير دليل على أن لكل شعب حقوقه المشروعة في أرضه وبين قومه.. له عليها حقوق.. ولها عليه واجبات.
يا لهذه الايام الطويلة الممتدة وكأنها بلا نهاية.. ويا لهذه الليالي المفعمة بالدموع والآهات تعبر عنها الأمهات.. كل الأمهات.. حتى إن إحداهن لم تعد تفرّق هل هي تبكي من أجل اليمن أو ليبيا أو سورية فكلها أوطان.. وعلينا جميعاً أن ندفع مقابلها ما غلا من الأثمان.
ولعلها أمنية عزيزة وغالية وهي أن تتقارب هذه الأوطان بعضها الى بعض لتعود كما كانت وطناً عربياً كبيراً عملاً بالحكمة القائلة بأن النوائب قد تجمع الشعوب أكثر مما تفرقها (وكأن المصائب يجمعن المصابينا).