يأتي في مقدمتها ضرب وتفتيت الدولة الوطنية القائمة على العقد الاجتماعي الذي غالبا ما تشكل تاريخيا مستبقا عصر وضع وصياغة الدساتير وأسلوب الحكم وغير ذلك من مقومات وأركان بناء الدولة الوطنية الحديثة ومع ان طبيعة تركيبة المجتمعات في منطقتنا العربية والإقليم عموما تقوم على تعدد الانتماءات سواء كانت دينية أو مذهبية أو عرقية وهي انتماءات لا إرادية إلا أن ذلك لم يصطدم تاريخيا مع الهوية الجامعة التي انضوت تحتها تلك الجماعات وان كان تاريخ المنطقة قد شهد بعض الصدامات بين بعض المكونات فأن الكل يدرك انه ما كان ليحصل لولا التحريض الخارجي ومصالح القوى الكبرى التي سيطرت واستعمرت بلدان المنطقة لفترات غير قصيرة في التاريخ واعتمادها على قاعدة فرق تسد .
لقد انطلق المشروع الغربي الذي استهدف دول المنطقة منذ غزو العراق عام ٢٠٠٣ حتى الآن من فكرة إضعاف الدولة الوطنية عبر تدمير جيوشها والسعي لانهيار سلطتها المركزية وجعلها غير قادرة على القيام بمهامها وواجباتها المتمثلة في حماية أمن البلاد وسلامة أراضيها ومواطنيها والقيام بوظائفها الاجتماعية إضافة إلى كسر وسرقة ووأد أحلام أبناء الأمة في تحقيق الدولة القومية ولعل تحقيق الهدف الأول يحول أية دولة وطنية مستقرة إلى دولة فاشلة ما يفسح في المجال لظهور التنظيمات والجماعات المسلحة والميليشيات غير الشرعية التي تستثمر في حالة الفوضى الناتجة عن ضعف الدولة المركزية وعدم قدرتها على توفير الأمن وتطبيق القوانين والأنظمة في البلاد لفقدانها أدوات السيطرة والضبط وتأكل هيبتها ما يمكن العصابات والمجموعات المسلحة من فرض سيطرتها وهيمنتها وسطوتها حيثما تواجدت ما يجبر أعدادا كبيرة من السكان الخاضعين لسلطتها- عدا المتعاطفين والمتعاملين معها - على القبول القسري بها بحكم عامل الخوف وبحثا عن الأمن والأمان وسبل العيش .
ولا شك أن الوصول إلى هذه الحالة سيفسح في المجال لإطلاق كل أشكال الخطابات ما تحت الوطنية التي تحاول تلك الجماعات توطينها وتكريسها في وعي الناس بهدف إيجاد اصطفافات ضيقة تصطدم وتتناقض مع الخطاب الوطني والهوية الجامعة وهنا تنشط الدعوات ذات الطابع الديني والمذهبي والعرقي والجهوي وغيرها وتظهيرها على أنها مظلة حماية لتلك الجماعات في مواجهة ما تتعرض له من أخطار مزعومة يجري بثها عبر وسائل وأدوات متعددة سواء كانت إعلامية أو منبرية وغيرها وهنا يجري الاشتغال على التاريخ عبر استحضار صور وشخصيات ورموز مغذية لتلك الخطابات المشار اليها لتكريسها وعيا جمعيا بحيث تتحول الجماعة السياسية التي كانت تعيش متناغمة متفاعلة عبر مئات السنين إلى تجمعات متناحرة متقاتلة تتربص الواحدة منها بالأخرى ما يدفعها للبحث عن حماية من خارج جغرافيتها وهنا يتحول من كان عداؤه خطرا على الجماعة السياسية بمجملها إلى حاجة وضرورة للبقاء يجب استدعاؤها ما يعني بالضرورة تبدلا وانزياحا في خارطة الصراع وأولوياته .
إن الرد الطبيعي والمنطقي والتاريخي على هكذا تحديات تواجه شعوبنا ودولنا ومجتمعاتنا هو بالتمسك بالهوية الجامعة والدفاع عنها وتحصينها وتعرية الدعوات الجهوية والضيقة وتبيان مخاطرها على المجتمعات العربية على أن يترافق ذلك بإعادة الاعتبار للخطاب القومي بمقاربات واقعية تنطلق من مشروعيته أولا وضرورته ثانيا وانه يعبر ويعكس مصالح حقيقية لأبناء الأمة دونما استثناء آخذا في الاعتبار أن الكيانات الصغيرة والهشة لم تعد قادرة في الوقت الراهن على حماية ذاتها أو القيام بواجباتها الحمائية ووظائفها الاجتماعية والدستورية بالشكل المطلوب في ظل التحديات التي تمثلها القوى العابثة بالأمن الأهلي و الدولي سواء كانت إرهابية بأشكالها المتعددة أو ما يشهده العالم من عودة لحمى الاستعمار بأوجه جديدة أنتجتها وأفرزتها العولمة بوجهيها الإيجابي والسلبي وتداعياتها على دول العالم التي بدأت تشق طريقها نحو بناء مجتمعات حديثة تسعى من خلالها لجسر الهوة التقانية والحضارية مع دول العالم المتقدم .
khalaf.almuftah@gmail.com