تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أعمدة من ورق «8»

ثقافة
الثلاثاء 12-1-2010
أســــــــــعد عبـــــــــود

دمشق – جريدة الثورة - خلف القصر العدلي..

وصلت.. ها هي إذن.. أنا وليس ساعي البريد. ستعلمني الأيام فيما بعد أنني لست وحدي الذي ملأتني الرهبة.. وأحسست بهيبتها من بابها المعدني الضيق إلى درجها القديم.‏

عرف موظف الاستعلامات من وجهي إلى أين أنا قادم.. بل رحب بي، ما أتاح لي فرصة أن أنظر إلى باب يسبق باب غرفته ورأيت أجهزة وآلات أثارت فيّ الفضول: هي إذن المطبعة..!‏

خجلت أن أسأل، أجّلت السؤال إلى أن اكتشفت ذاتياً أنه «قسم الزنكوغراف».. جديد وفخورون به.. وقبل أن يكون كانوا يحفرون كليشيهات الزنك لدى القطاع الخاص.. متجاوزين مرحلة حفر العناوين على المطاط.‏

في مكتب أخي التقيت رجلاً وسيماً له طريقة لافتة في الكلام، لا يخفي حديثه ثقافته الواسعة... أربكتني لطافته معي ولا علم لي بأنها طبيعته مع كل الناس..‏

محمود السيد.. فهمت أنه المشرف الفني على الصحيفة.. وعرفت فيما بعد أنه صحفي كبير.. وقد ترأس تحرير مجلة منذ 1957 – أعتقد كان اسمها ليلى – وأنه فنان وشاعر وأديب.‏

أحببته ومازلت أحبه حتى اليوم..‏

نصح محمود السيد أخي بعدما عرف أنني حائر بـ 136 درجة في الثانوية العامة الفرع العلمي، ماذا أفعل، بأن يرسلني إلى إيطاليا لدراسة الإخراج السينمائي.‏

وسألني بودّ:‏

- ألا تحب السينما؟!‏

ارتباكي الذي تفاقم بسؤاله منعني من الإجابة وردّ أخي ضاحكاً يحب أن يشاهد فيلماً.. لا أن يخرجه..‏

تابع الأستاذ السيد قائلاً:‏

هناك انطلاقة في السينما الإيطالية ومخرجون عظام، وذكر فلليني.. وبازوليني.. وغيرهما.‏

جرى حوار حول تعليم الإخراج السينمائي لم أجد نفسي معنياً به.. إذ ما زلت مقموعاً بدراسة الهندسة.. توجه محمود السيد إليّ بالحديث سائلاً عن الأفلام التي شاهدتها فذكرت بعضها وذكرت فيلماً هندياً «جنكلي».. ابتسم بنعومة ساخرة وغيّر الحديث وأشعرني بفقدان أمله بي... وأنا أغادر مبنى الجريدة برفقة أخي أصابني نوع من الإحباط وسألت نفسي: أين أنا؟.. بل من أنا؟..‏

مخرج سينمائي.. ماذا يعني ذلك؟.. أنا أحفظ أسماء أفلام كثيرة.. ممثلين، ممثلات عرب وأجانب.. لكن.. مخرج؟.‏

ماذا يفعل المخرج؟!‏

صعب عليّ أن يخبو ضوئي بهذا الشكل في أول زيارة صغيرة لـ «الثورة» وتمنيت فرصة قريبة أغيّر صورتي أمامها.. لكن.. كلما أردت ثقب الشرنقة لأطير غصصت بخيوط الحرير.‏

عندما التقيت علاء وقد حضر للفحوصات الطبية ليصبح طياراً عسكرياً نصحني بأن أطالب أخي بتوظيفي بالجريدة، وأن أسجل في أي كلية تقبلني، وأن أستقر وأعيش.‏

شعرت باضطراب روحي وضبابية المشهد الذي يواجهني وجابهته قائلاً:‏

- لا أريد أن أشرنق نفسي منذ الآن.‏

< أنت مشرنقها وخالص.. هندسة.. هندسة.. هذه شرنقة اسمها الهندسة.‏

- سأنطلق..‏

< انطلق.. ابحث عن قيصر.. قل له أن يؤمن لك شغلاً في لبنان.. هناك الحرية والسحر.‏

- سأنطلق إلى الحياة الجامعية.. إلى كلية الهندسة..‏

ذاك التصميم في تلك الأيام كان جيداً نظرياً لكنه افتقد إلى إرادة عملية تدعمه.‏

الشروط المعلنة من جامعتي دمشق وحلب لا تقبل حتى استلام أوراقي للتقدم لمفاضلة الهندسة.. لم أتقدم نهائياً... وقررت أن أعيد البكالوريا.‏

ارتحت بعد القرار.. ليس لشعوري بحتمية دخولي إلى كلية الهندسة.. بل لأن ذلك سيتيح لي عاماً آخر في دمشق.. وسأتابع الثورة وسأزورها كثيراً علّي ألتقي مرة أخرى محمود السيد.. وغيره أيضاً..‏

- يجب أن أنطلق..‏

أول مرة في حياتي أشعر أن فتاة مهتمة بي..‏

جارتي على المقعد في باص ينقلنا من دمشق إلى اللاذقية..‏

هي أيضاً نجحت في البكالوريا هذا العام.. ومقبولة في كلية الزراعة وسمتها «الهندسة الزراعية» لكنها لا تريد الزراعة ستسجل في الحقوق.‏

- حقوق؟!‏

< نعم حقوق..‏

- لماذا؟!... هذه مأوى العجزة..‏

< أولاً لا أستطيع أن أداوم في دمشق.. وثانياً أنا أحب الحقوق.. وثالثاً أينما اجتمع العجزة يصبح مأوى لهم.‏

وأضافت:‏

< تعال إلى الحقوق أنت مقبول.‏

- ماذا أفعل في الحقوق؟!‏

< ترافقني.. هل رفقتي قليلة؟!‏

في كلامها.. في ضحكتها.. في حركتها.. إشعاعات تخترق كل أنواع الشرانق.‏

-أين أنا؟.. من أنا؟.. يجب أن أرى.. أن أختار.. هي وحدها رفضت «الهندسة» الزراعية..‏

لعلها أحست بخيبتي.. لكمتني بخفة في كوعها.. وسألتني عن اهتماماتي، لا تتوقف عن الممازحة والضحك.. رويت لها شيئاً عنّي فيه متابعتي لـ «الثورة».. وبضحكة جميلة قالت لي:‏

< كفى.. بدأت أغار من جريدتك.‏

- تغارين.. أنا لا أعرف حتى اسمكِ..‏

< اسمي ناديا..‏

- اسمك حلو..‏

< يحلّي أيامك ويعلّي مقامك.. ويفتح عيونك.. اختر ما تحب..‏

- ماذا أختار؟!‏

< الثورة... أخوك هناك.. والجامعة جانبك... شي كلية نظرية ويكفي.. وستكون..‏

- سأكون ماذا؟!‏

< رفيقي في الحقوق.. افتح عينيك جيداً.. ثم انطلق كالطائر.. وليس كالخفاش.‏

كان لي ما أريد.. عام لإعادة البكالوريا أتاح لي ممارسة أحلام مكبوتة..تعرفت على كثيرين من محرري الثورة.. وعلى عمال فيها.. وعرفت أعدادها يوماً بعد يوم.. استعنت بها لنشر ضوء في عزلة اعادة البكالوريا من المنزل.. واستعنت بغيرها.. لكن ليس بينها كتب بكالوريا .. العلاقة بيني وكتبي الدراسية، جداً رسمية... وأحلام اليقظة تحقق الانطلاق؟!‏

a-abboud@scs-net.org

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 أسعد عبود
أسعد عبود

القراءات: 646
القراءات: 948
القراءات: 931
القراءات: 906
القراءات: 955
القراءات: 992
القراءات: 999
القراءات: 980
القراءات: 1074
القراءات: 1089
القراءات: 1023
القراءات: 1066
القراءات: 1039
القراءات: 1078
القراءات: 1334
القراءات: 1218
القراءات: 1122
القراءات: 1142
القراءات: 1201
القراءات: 1201
القراءات: 1208
القراءات: 1229
القراءات: 1223
القراءات: 1277
القراءات: 1278

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية