الذي قوبل به ذلك العمل الذي شهدته العاصمة الفرنسية في حين أن المئات من المواطنين العرب وغيرهم يذهبون ضحية أعمال إرهابية في سورية والعراق واليمن ولبنان ومصر وليبيا ونيجيريا والصين وباكستان وأفغانستان وغيرها من دول العالم ناهيك عن التدمير والتخريب الذي تمارسه عصابات إرهابية مسلحة دونما أن نسمع مجرّد إدانة أو موقف واضح من أولئك الذين تباكوا على ما جرى في فرنسا وحزموا حقائبهم باتجاه باريس للمشاركة في مسيرات تضامنية ومندّدة بما حدث.
لقد عزى الكثير من الساسة والباحثين والمحللين السياسيين ما جرى في باريس إلى أسباب بعضها يرتبط بموقف الحكومة الفرنسية من الإرهاب الذي تشهده سورية والمنطقة وسلبية المواقف السياسية الفرنسية مما يجري وتدفق آلاف المواطنين الفرنسيين والأوربيين تحت سمع وبصر الأجهزة الاستخباراتية الغربية للقتال في سورية والعراق إضافة إلى أن الكثير ممن تحدثوا عن أسباب ما جرى أحالوا ذلك إلى مشاكل داخلية في فرنسا تتعلق بالمهاجرين القادمين من شمال إفريقيا وغربها وظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والتمييز الذي يواجهونة كثقافة شعبية لدى قطاعات واسعة من الشعب الفرنسي الذي لم يستطع أن يهضم هؤلاء القادمين من خارج فرنسا وذوبانهم في مجتمعاتهم الجديدة ناهيك عن صعود اليمين المتطرّف في أوروبا عموماً وفي فرنسا وألمانيا على وجه الخصوص، وهو ما أسفرت عنه نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت قبل عدة أشهر حيث حصلت القوى اليمينية على حوالي ربع المقاعد فيه.
إن ما يدعو لوضع العديد من علامات الاستفهام والتعجّب هو تلك الازدواجية وثنائية الخطاب بمواجهة الإرهاب ولاسيما من ساسة الغرب وبعض مفكريه ومثقفيه، ما يعكس أزمة أخلاقية تواجه الغرب الذي كان دائماً يرفع يافطة حقوق الإنسان والعدالة والمساواة بين البشر بغضّ النظر عن الجنس واللون والثقافة والدين، وهو أغلب ما جاءت به الثورة الفرنسية وتبنّاه ميثاق الأمم المتحدة ولكن ما يجري على الواقع هو مخالف في جوانب كثيرة منه لذلك، ما يعني أن العنصرية الثقافية لا زالت تقبع في وعي الكثير من ساسة الغرب ومثقفيه، وأن الرجعية الثقافية التي يتحدث عنها المفكر الفرنسي باسكال برونكو الذي كان يردد: أن الغرب لا يرى في إنسان العالم الثالث إلا الإرهابي الذي يثير الرعب أو العبد المطيع الذي يثير الشفقة لازالت تعتمل في متخيلهم الجمعي وتتحرك وتستيقظ ميكانيكياً حين استدعائها.
إن إدانة العمل الإرهابي الذي شهدته باريس يجب أن لا يحجب حقيقة أن ثمة حديث يتجدد في أوساط ثقافية غربية وسياسية عن تفسير ما جرى على أنه ترجمة لمقولة وتأكيد لمقولة صموئيل هاتنغتون عن صراع الحضارات التي يرى فيها ان الاختلاف الديني والثقافي هو الذي سيحكم بالنتيجة طبيعة الحروب والنزاعات التي يشهدها العالم، وهو ما تلقّفه المحافظون الجدد في أمريكا في عهد بوش الابن ووجدوا في الذريعة لحروبهم في أفغانستان والعراق وغيرهما من بلدان المنطقة لتكون غطاء لما سُمي كذباً الحرب على الإرهاب، والتي هي في جوهرها إعادة إنتاج لمفهوم الاستعمار والسيطرة والهيمنة على دول العالم، إن إدانة ما جرى يجب أن لا تحجب حقيقة الماضي الاستعماري لفرنسا وما ارتكبته من مجازر بحق أبناء الدول التي استعمرتها حيث قُتل أكثر من مليوني جزائري وملايين العرب والأفارقة والآسيويين الذين كانوا وقود حروبها الاستعمارية وكذلك الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولا ننسى - وبشهادة الفرنسيبن أنفسهم - أن أبناء وأحفاد هؤلاء القتلى هم الذين ساهموا في إعادة بناء فرنسا بعد الدمار الذي لحق بها في الحرب العالمية الثانية وهم اليوم يعيشون في أطراف مدنها وصفيحها ويعامل غالبيتهم على أنهم من خارج الجسم الثقافي الفرنسي في عنصريّة واضحة.
إن تحليل ما تشهده منطقتنا من أحداث وإرهاب منظّم ومدروس يجعلنا على قناعة من أن حمّى الاستعمار بدأت تعود من جديد وثمة إحياء للذاكرة الجمعية الأوروبية تجاه منطقتنا، وهنا يصبح دور التنظيمات المتطرّفة والراديكالية أن تعطي مفاتيح دخول المنطقة لدول الغرب الاستعماري تحت ذريعة مكافحة الإرهاب وما يستدعيه من تحالفات هدفها توفير الغطاء لاستعمار جديد.
khalaf.almuftah@gmail.com