وفي الواقع كان لأميركا وللدول المنتصرة ما أرادت من حيث تقسيم العالم ورسم حدود الدول كما يناسب مصالحها، وإقامة الأنظمة في تلك الدول بشكل يجعل الحكام حراساً للمصالح الغربية الاستعمارية في بلدانهم.
ومع هذه السيطرة برزت مظاهر الاستقلال الشكلي لدول العالم الثالث التي انقلبت إلى هيئات منعدمة القرار وأجرام تائهة تدور في فلك هذه الدولة الاستعمارية أو تلك، وقليل من الدول خرج على هذا الواقع وحاول تحشيد القوة التي تحفظ له سيادته وتمكنه من امتلاك قراره الوطني المستقل وممارسة سيادته الوطنية من غير افتئات وكانت سورية خاصة بعد الحركة التصحيحية في العام 1970 وإيران بعد الثورة الإسلامية في طليعة هذه الدول «المتمردة» على السيطرة الغربية أو الهيمنة الاستعمارية. وقد جمعتهما سياستهما الرافضة للتبعية معطوفة على التهديد الذي تشكله إسرائيل
لمصالحهما الوطنية والقومية والإسلامية، ما قادهما إلى حلف استراتيجي يقوم على فكرة مقاومة الهيمنة والاستعمار، وبناء الدولة المستقلة.
لم تكن النزعة الاستقلالية لدى الدولتين أمراً مريحاً يتقبله الغرب، فاتخذ منه المواقف السلبية التي تطورت بشكل تصاعدي إلى درجة الخصومة المتهيئة للتحول إلى عداء، عداء تحقق بشكل فعلي عندما جاهرت الدولتان عملياً بدعم الفلسطينيين واللبنانيين الذين نظموا مقاومة مسلحة لتحرير أرض احتلتها إسرائيل في فلسطين كلها وفي لبنان حتى نصفه. وقد نظر الغرب الاستعماري بقيادة أميركية إلى المقاومة اللبنانية والفلسطينية نظرة عداء مطلقة لأنه رأى فيها مساً أو خطراً يهدد المصالح الإسرائيلية وتالياً الغربية.
ومع هذه المواقف مضت المقاومة في لبنان وفلسطين في عملها محتضنة بشكل كلي من سورية وإيران، تمدانها بالمال والسلاح وتخوضان معها حرباً إعلامية تمكنها من الإطلال على العالم الخارجي بما يحشد لها التأييد، والدعم في مهامها الشريفة العادلة المتمثلة بتحرير الأرض واستعادة الحقوق الوطنية.
بهذا تشكل بشكل واقعي ما عرف بـ «محور المقاومة» الذي حقق الإنجازات الكبرى في وجه إسرائيل وأرسى معادلة كاسرة للتفوق الإسرائيلي ضد العرب في سياق الصراع مع المشروع الصهيوني الاستعماري، وأثبتت حقيقة ساطعة أن «المقاومة قادرة على المواجهة وإسرائيل يمكن هزيمتها».
لقد صعق الواقع المتشكل بوجود المقاومة المنتصرة وإنجازاتها أميركا وإسرائيل وأتباعها، ولأن المقاومة حق مشروع تضمنه كل الأعراف والمواثيق الدولية بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لأن المقاومة حق مشروع لكل من اعتدي عليه، يمارسه بمنطق دفاعي وردة فعل على انتهاك سابق، أو تحضيراً لمواجهة تهديد جدي قائم، لأنها كذلك حتى قبل تلك القوانين والأعراف لأنها حق طبيعي يلازم الكائنات الحية بمجرد وجودها على قيد الحياة، لأن المقاومة كذلك، فإن أميركا وإسرائيل عجزتا عن إنكار حقها ، فلجأتا إلى أكبر خديعة ومناورة تلفيقية بتغيير توصيفها وتسميتها بالإرهاب واعتبرت حركات المقاومة حركات إرهابية واجبة المواجهة والقمع .
فعلت ذلك لأن أحداً لا يمانع بمواجهة الإرهاب انطلاقة من حقيقة قاطعة بوجوب التصدي له ومحاربته وقمعه كونه يشكل تهديداً لحقوق الآخرين بمحرد وجودها، ويؤدي إلى انتهاكا عبر استهدافها بوسائل غير مشروعة تؤدي إلى إفساد الحياة ونظام الأمن والسلامة العامة وطنياً كان أم دولياً.
إن المقاومة والإرهاب مفهومان متضادان يسير أحدهما عكس وجهة الآخر، فالمقاومة تهدف لاستنقاذ حق، والإرهاب يهدف لإزهاق حق، والمقاومة حق وواجب على من انتهك حقه بينما الإرهاب إذا ارتكب يشكل اعتداء وجريمة واجبة القمع فتكون المقاومة في وجودها قائمة حتماً في مواجهة الإرهاب إن وجد. فالإرهاب فعل عدواني، بينما المقاومة ردة فعل دفاعي، وهو ما ينطبق تماماً على إسرائيل الإرهابية والمقاومة اللبنانية أو الفلسطينية الدفاعية.
هذه المفاهيم تعلمها أميركا ولكن تصر على تجاهلها والعمل بعكسها، والأفظع في سلوك أميركا هو تقليبها للحقائق والأمور وتسميتها للمقاومة إرهابا، وللجماعات الإرهابية ثوارا أو معارضة معتدلة، أو في تسميات أخرى مقاومة. وهذا بالضبط ما تمارسه أميركا وأتباعها اليوم في المنطقة التي يتحرك فيها محور المقاومة الممتد من إيران إلى الساحل اللبناني السوري.
إن معاناة محور المقاومة من السلوك الأميركي مزدوجة، ففي وجه منها تشكل العدوان الميداني، وفي آخر نجد العدوان الفكري المتمثل بالتحريف الاحتيالي في التوصيف، ولهذا كان على محور المقاومة أن يواجه الأمر بوجهيه دونما إهمال الأمر على حساب آخر. لأن الاحتفاظ للمقاومة بمشروعيتها، يفرض ابتداء التأكيد على طبيعة المقاومة وصوابية توصيفها. وبالتالي فإن المعركة هنا وجبت على خطين خط تثبيت مفاهيم المصطلح وخط ممارسة العمل المقاوم.
وهنا نذكر كيف أن الرئيس حافظ الأسد دعا ومنذ اللحظة الأولى التي اعتدت أميركا على المقاومة ووصفتها إرهاباً كيف أنه دعا إلى تحديد تعريف دولي للإرهاب يصار إلى اتخاذ التدابير الدولية حيال الإرهاب والمقاومة على ضوئه، فرفضت أميركا لأنها تصر على ممارسة التلفيق في التعريف، ورغم أن كثيراً من السياسيين والأكاديميين طرحوا تعريفات معتبرة للإرهاب فإن هذا الأمر بقي خارج أروقة مجلس الأمن حتى لا يدخل إليها ويقيد أميركا.
لكن ذلك لم يثن محور المقاومة عن متابعة المهمة التكاملية في ممارسة الحق بالمقاومة وممارسة الحق في مواجهة الإرهاب في الآن ذاته، ثم في الانخراط في المعركة أو الصراع الفكري القانوني لتحديد مضامين المصطلحات لتبيان التناقض بين الإرهاب والمقاومة وحتى لا يبدو عجباً أو مستغرباً أن تجد المقاوم والإرهابي وجهاً لوجه ضد بعضهما البعض في الميدان، وأن يسعى المقاوم إلى الانخراط في جهد فكري للتأكيد على مضمون العبارتين وهو تماماً ما يحصل في سورية اليوم التي تشهد في هذا الوقت تطبيقاً لكل جزئيات الموضوع. فالمقاومة أدركت أن النجاح في المواجهة يفرض الحرب على جبهتين جبهة نشر ثقافة المقاومة، وجبهة العمل في ميدان القتال.
ففي الوقت الذي نجد الجيش العربي السوري يواجه الجماعات المسلحة التكفيرية التي تمارس الإرهاب بأبشع صوره ، وتعمل تحت تسميات وعناوين شتى من داعش الإرهابية إلى جبهة نصرة الإرهاب إلى جبهة الإرهاب الإسلامية إلى جيش الإرهاب الحر وسواها ، نجد مقاتلي المقاومة يعملون حيث يجب جنباً إلى جنب مع الجيش العربي السوري ضد الإرهاب وهذا هو الأمر الطبيعي ، ثم عقدت الندوات حول ثقافة المقاومة وجاءت الدعوة لمؤتمر دولي في دمشق للتأكيد على الحق بالمقاومة والواجب بمحاربة الإرهاب والتطرف الديني لتكمل المشهد في أداء محور المقاومة الذي وجد نفسه ملزماً بخوض حرب الدفاع عن نفسه وحقوقه على خطين متلازمين فكري وميداني .
إننا نرى في مؤتمر مناهضة الإرهاب والدعوة إلى التحشد الدولي الجدي ضده عملاً مكملاً للعمل الميداني لا بد منه في حرب الدفاع عن الوطن والشعب والمقاومة التي يمارسها الشعب في سياق هذا العمل الدفاعي. ويكون العمل الفكري في إظهار حقيقة الإرهاب المناقضة لطبيعة المقاومة من الأهمية التي لا تقل عن الدور الذي تمارسه القوى المسلحة في الميدان لاجتثاث الجماعات الإرهابية التي تعيث فساداً فيه.