وأحياناً من الإلغاء المباشر لعناصر حضورها وعوامل تأثيرها في الحركة السياسية وموجباتها، وسط ضغط هائل من المتغيّرات غير المسبوقة وربما غير المتوقعة في معايير العلاقة مع الآخر.
الأخطر أن تكون تلك الصورة النمطية منطلقاً للاتهام الجاهز من دون أدلة أو قرائن، وأن يكون مبرراً لذرائع تراكمت على مدى عقود لتبرير حالات التقصير وتسويغ مظاهر الخلل في المقاربة القومية تحت عناوين الضرورة المرحلية التي كادت أن تجمع بين دفتيها متناقضات، وأن تشيد جدراناً من العدائية بين اللون الواحد أو الصيغ المتقاربة.
وحتى وقت قريب كان مؤجلاً على البعث وغيره مجرّد التفكير أبعد من حدود العلاقة الوطنية تحت ذريعة عدم التدخل والابتعاد قدر الإمكان عن حالة الصدام التي وسمت مراحل عمله أو أُلصقت به عنوة، لكن تحت ضغط الانزلاقات التي عصفت بالمنطقة العربية، بات من المحسوم أن قواعد التعاطي مع التطورات قد تعدّلت مع هذا الانزياح الكارثي في المفاهيم والاعتبارات وحتى الممارسات السياسية بشكلها العلني، حين خرجت من الأدراج والغرف والأقبية المظلمة إلى دائرة الضوء.
على هذه القاعدة كان لا بدّ من إعادة تدوير المشهد من أساسه مع ما يقتضيه من عودة إلى قواعد الاشتباك الأولى بوجهها الاستراتيجي، رغم ما عليها من ملاحظات، وتحديداً ما يتعلق منها بالعامل الإقليمي وارتباطاته الخارجية، حين تحوّل إلى بيدق على رقعة متدحرجة من الأحداث التي استباحت المحظورات، وهتكت إلى حدّ بعيد مفاهيم التعامل والسلطة، وأعادت العلاقة مع الدولة الوطنية الناشئة أو الغابرة إلى المربع الأول.
فالمتغيّر الإقليمي ذاته بات منعطفاً ونقطة فاصلة في وقت فقدت فيه المتغيّرات الدولية قدرتها على تعديل قواعد الاشتباك الحاصلة، وأفلست في تقديم البدائل بعد أن بالغت في سطوتها ودورها على الأحداث والتطورات، ما دفع بالعامل الإقليمي ليكون بديلاً تارة ومن باب التقليد الأعمى للآخر تارة أخرى، أو من زاوية الاحتكام إليه بعد إفلاس الأدوار الدولية في ثالثة.
وبالتوازي معه ثمّة من يعود إلى دفاتره القديمة من باب الحصانة التي تراكمت، أو بمعيار الحاجة إلى صيَغ تواكب العصر، لكنها تمتلك التجربة، وتملك الرصيد وأحياناً المصداقية التي فقدتها أغلب عناصر مكونات المشهد السياسي العربي في ذروة التصعيد السياسي والعسكري الذي يعيد سيناريوهات عقود الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ولا يتردد في الإضافة عليها من زاوية التبجّح بما حققته زوايا الأدوار الوظيفية.
عند هذا المنعطف، لا تبدو المسألة مقتصرة على مراجعة ذاتية للبعث، رغم تفرّده في الصيغ الفكرية والسياسية الحاضرة على الساحة، بقدر ما تتطلب إعادة النظر في الاتجاهات موضوعياً، بما تُمليه من تقييم للأدوات ومعايرة للعوامل ونقاط القوة والضعف، والأهم أن تجري محاكاة النتائج من منظور نقدي مباشر وعميق للتجربة، خصوصاً أن حرج السياسة الذي كان سائداً قد خرج من لائحة الاعتبارات المأخوذ بها مرحلياً واستراتيجياً، بعد أن أقحمت الدول الوظيفية نفسها في مرمى الخطيئة القاتلة، حين تورّمت فيها الحسابات النفعية والغايات المصلحية التي ضبطت حركتها على إيقاعها.
لا نعتقد أن البعث يغيّب هذه الاعتبارات، ولا نتخيل أنه لا يتابع حالة الاصطفاف التي تتواتر بطريقة الخطف إلى الخلف وصولاً إلى المربع الأول، خصوصاً أنه يقف على مساحة تتسع، ويمسك بخيوط الحراك بعيداً عن نمطية الاحتكام إلى العناوين، بما تحسمه من ضرورة العودة إلى الجماهير كمفردة ومصطلح.
ما نستطيع أن نجزم به أن هناك حاجة لتشبيك عوامل حضوره الوطني والقومي من خلال تلك العلاقة التي شهدت سنوات ازدهار ترددت على الألسن وانطبعت صورها في الأذهان، تحسمها على الأقل مشاهد الاصطفاف والفرز المتشكلة على امتداد الساحة العربية، بمتاريسها وخنادقها، حيث الفوارق والاعتبارات الجزئية تتلاشى أمام سيل من الانجراف الخطير الذي يدفع إلى الجزم بأن المواجهة المفتوحة على مصراعيها تستحق جرأة الخروج من التكتيك المرحلي إلى الثابت الاستراتيجي.
a.ka667@yahoo.com