إذا لم يكن في الموت من بد.. فمن العار أن تموت جبانا
في أعماق نفسي كنت أقول: ثلاثة أبشع من الموت.... أن أُقصى عن دمشق.... و أن أحرم الذهاب و الإياب على كامل مساحة سورية... وثالثها: أن يطهروا نفسي من هوى الأمكنة.
ولم يكن ثمة مجال حتى للحلم. ما تحايلت عليه كي أبعده عن مشاويري إلى دمشق تبدد على الفور عند حاجز للجيش على تخوم بانياس الملاصقة. على الطريق لم يكن مستحيلا أن ترى الأكشاك التي يبيع فيها أبناء بانياس وجوارها منتجات محلية «ثمار الصبار... المراب الأخضر... الفستق السوداني و كذا التين..». لكنها كانت بائسة و قليلة. كانت المدينة الساحلية الصغيرة تئن تحت وقع آلام الغدر والفرقة ورائحة الدم و احتمالات الخراب. عاملني الحاجز بتهذيب لابد أن يكون له هدف. ثم بادرني أحدهم بالقول: هناك عسكري انتهت اجازته ويجب أن يلتحق بقطعته، هل لك أن تنقله معك وسينزل على طريقك.
ترددت ثم وافقت رغبة في تخفيف عبء صغير عن هذا الشاب الجميل بحيلته القليلة.
فتحت الراديو على محطة شام أف أم وكانت الساعة نحو الحادية عشرة ظهراً ونشرة أخبار حافلة. كانت المحطة تحاول أن تحدث خرقاً ما في الجدار الذي أقامته محطات إذاعة و تلفزة تملاْ الفضاء و وكالات أنباء عالمية لم يغب عن دعمها الجهد العربي الجاهلي، وكانت محاولة المحطة وغيرها من محطات أشبه بالوقوف في وجه التيار... لكنها وقفت.
لم أكن مضطراً أن أعتذر لمرافقي عندما أغلقت المذياع، ومع ذلك اتجهت إليه متجاوزاً حاجز الصمت بيننا الذي استمر منذ نحو نصف الساعة وقلت له: مللنا هذه الأخبار.. قتل و إجرام وتخريب وتدمير ومتفجرات و«انتصارات».... كل الأطراف المتحاربة منتصرة..؟! فأي انتصارات هذه. كل ذلك ثم جاؤونا بصرعة الكيماوي هذه !.
أدرت نصف عيني إلى العسكري باحثاُ عن تبدلات على محياه تنبئني بموقفه، أو فيما إذا كان اكتشف حقيقة الأمر وهي أنني أطفأت الراديو خوفاً مما يجري. كان الشاب ينظر إلي بعيون غارقة في تساؤلات وحيرة لا حدود لهما. سألته: كيف ترى الأمور؟
- قال: ليس لدي وقت لأرى.
- قلت متغابياُ: ماذا تفعل بوقتك ؟
- قال: أحارب.
- وفي الإجازات ؟
- في الحرب الإجازات قليلة فإن توفرت أسرعت إلى من أحب.
- من ؟
- أمي و أبي و أخوتي و قبر أخي الشهيد
- ومن أيضاً ؟
- قال مبتسماً: أنا لا أراها... هي في دمشق، وقد اشتقت لها كثيراً.
- قلت: لماذا لا تذهب إليها هناك ؟
- قال: القصة طويلة.. وقد ذهبت إلى هناك مرة.. فلم أجد دمشق. وأضاف متحسراً: كانت دمشق مدينة جميلة. وفيها عرفت و عشقت غادة... و لا بد أن تستعيد المدينة جمالها.
as.abboud@gmail.com