| أعمدة من ورق «14» ثقافة - إلى أين..؟! بدأ الأرق.. القلق.. واختارتني كلية الحقوق.. ربما أدركني شيء من اليأس.. لولا.. أملي أنني سألتقي ناديا رفيقة السفر.. التي سافرت مراراً إلى تلك الساعات التي قضيناها على مقعد واحد في عربة باص بين دمشق واللاذقية.. أكثر من ذلك. بعد أن سجلت في الحقوق ودخلت أستكمل اكتشاف معالم الجامعة الجميلة.. طالعني وليد وعبد الحميد.. كان وليد قد سجل في كلية الصيدلة وأصبح في السنة الثانية، أما عبد الحميد فموعود بمنحة لدراسة الحقوق أو الاقتصاد في لبنان، سعى له بها القوميون السوريون.. اتفق الاثنان أن الحقوق هي أكثر ما يناسبني.. وأخرج من محفظته «الثورة».. وقدمها لي قائلاً: < وهذه.. - ماهذه؟! < الحقوق وهذه وتكتمل لك حلقة جميلة للحياة.. أسع قال طالب الصيدلة وليد: < الحقوق أحسن من الصيدلة. - كيف؟! < على الأقل تفهم على هذا «مشيراً إلى عبد الحميد» ما يقول: - ينظمك..؟! < تصور.. في هذا الزمن واحد يسعى لنقل بعثي إلى صفوف حزبه.. سوري.. قومي.. لا أعرف. قال عبد الحميد: دعك مما تقول.. البعث أسهل لك وأحسن.. ثم نحن توقفنا عن التنظيم. بدا الاثنان أنهما سعيدان من أجلي فقد دخلت الجامعة.. ولأول مرة أشعر أن للجامعة باباً واحداً وداخله كليات.. وفي أي كلية كنت تستطيع أن تكون جامعياً.. ابتسمت لنفسي.. وصممت أن أبحث عن ناديا. بدأت الحياة.. دخلت قاعات الحقوق الضخمة العتيقة.. اكتشفت كتبي وأساتذتي بمتعة لكن دون هدف.. هدفي الوحيد كان أن ألتقي بناديا.. في الطريق إلى قاعة الصف التقيت فيصلاً.. قال: < إلى أين؟ - عندي محاضرة اقتصاد سياسي. < اقتصاد سياسي.. في بلد لا اقتصاد ولا سياسة!! - إما شيوعية.. وإما لا اقتصاد ولا سياسة؟! ضحك وتناول كتاب الاقتصاد السياسي من يدي لمؤلفه الدكتور فؤاد دهمان.. قلّب في صفحاته.. ثم وقف عند صفحة كُتب عليها الشيوعية.. أو كارل ماركس.. أو شيء من هذا القبيل.. وقال لي: < عندما تصلون إلى هذا الدرس أخبرني لأحضر معك. - لماذا.. ناقصك؟! < لا.. فقط كي أرى كيف يدرّس أستاذ برجوازي الماركسية؟! - تعني الدكتور فؤاد دهمان.. < هو رجل جيد.. نظيف وفهيم وعاقل.. لكن..؟! - لكن ماذا؟! نظيف وفهيم وعاقل وبعدها، لكن..؟! إما شيوعي وإما نرجمه..؟! < أبداً لا نرجمه ألم أقل لك سأحضر درسه؟! طبعاً لم يحضر الدرس.. ولم أخبره عندما بلغنا درس الماركسية.. لكني وجدت في قراءة ما أورده الدكتور دهمان في كتاب عن النظريات الماركسية.. القيمة وفضل القيمة.. المادية التاريخية.. نضال الطبقات.. ثم رأس المال.. وكذا ملخص عن البيان الشيوعي متعة حقيقية.. رغم شدة التكثيف والاختصار.. إلى حد كبير كانت المسافة بين الشيوعية والتهمة قد اتسعت.. ولم تعد الماركسية مجهولاً لم يسمع به الناس. كان البعثيون بعد 23 شباط 1966قد اقتربوا أكثر من الفكر الماركسي ويشرح لي خالد: < هم ليسوا ماركسيين أبداً ولن يكونوا.. هم قوميون يساريون يلوذون بالماركسية.. - يلوذون من ماذا؟! < من عدم وضوح النظرية الاشتراكية عندهم.. يعني هم اشتراكيون.. وفقط. كان صاخباً في حديثه.. خطابياً.. بدا أنه لا يخاف.. لكنني أنا خفت وبخفة سألته: - أنت مع من؟! < أنا مع حالي.. أقول ما أراه ولا أستنجد بأحد. كانت الأيام تمضي لتنسيني كل عذابات الخيار الجامعي.. كل يوم صديق جديد.. كل يوم معارف جديدة.. فقط ناديا لم أرها ولم أعرف عنها شيئاً. دخل عام 1967.. وها هو الشتاء ينصرم. لا أزعم أنني انسجمت مع الحقوق تماماً.. لكنني أجده دراسة ممتعة.. سألني أخي: < أليست الحقوق أفضل من الاقتصاد الذي فكرت به لتعيش في حلب؟! - الاقتصاد.. اسم أحدث.. ثم كنت أفكر أن أعمل في فرعكم هناك. < في الجماهير..؟1 - نعم.. < هل تريد عملاً في الثورة؟! توقفت عن الكلام.. كأنها النبوءة التي أطلقها في وجهي كثيرون، وكانت البداية من عند علاء.. في أحد أيام شهر آذار وقد أتممت التسعة عشر عاماً التقيت ناديا.. كل شيء فيها تغير عدا ابتسامتها.. تقريباً عرفتني ولم أعرفها.. أعلمتني بزواجها وحملها واستقرارها مع زوجها في اللاذقية.. وقالت لي: < أقرأ الثورة كل يوم؟! - اشتركت بها.. < لا.. أشتريها.. يشتريها لي زوجي. - تحبينها؟! < أبحث عن اسمك فيها! - بجد...! < أنا واثقة.. ظهر ذاك اليوم تحولت من مستمع إلى مطالب أسأل أخي أن يجد لي عملاً في الثورة.
|
|