وفي إطلالتها المزدوجة من البوابة الفرنسية البريطانية على مشهد الحرائق التي أشعلتها في المنطقة، تقدم أوروبا صورة نمطية من العودة إلى منطق الاستعمار بشقّيه السياسي والعسكري، مستعيدة شهوة أطماعها في أن تكون الضفة المقابلة لها من المتوسط ساحة جديدة لتصدير أزماتها، ومنافذ للهروب من تداعيات فشلها في حل التحديات الاقتصادية التي تواجهها.
فالتناغم الفرنسي - البريطاني حيال التسليح ودعم الإرهابيين في سورية، يعيد الذاكرة إلى كوارث قرن مضى، ولا تزال ماثلة في كل جوانب الوضع العربي، حين رسمت الدوائر الدبلوماسية البريطانية والفرنسية خارطة المنطقة وفقاً لأطماعها وأهوائها، ولا تزال تحاكي في تداعياتها ترسبات تلك الأطماع في الذهنية الاستعمارية الأوروبية، وتفتح الباب على مصراعيه أمام جبهات صراع جديدة بين ضفتي المتوسط.
ورغم الفارق بين الزمنين، وحتى في موازين القوى، يعود الشريكان إلى تقمّص الدور ذاته، مدفوعاً بتساؤلات يصعب هضمها وأحياناً يتعثّر تفسيرها، حين تبدو وكأنها مناكفة غير محسوبة العواقب للسيد الأميركي، الذي قدّمت له أوروبا- وليس فقط فرنسا وبريطانيا -فروض الطاعة منذ عقود خلت، وكانت محاولته المستميتة لاستعارة مبدأ «النأي بالنفس» من أشقائنا اللبنانيين متعثرة وبائسة كحالهم!!!
المفارقة أن أحداً لا يستطيع أن يقتنع أنه يمكن لفرنسا وبريطانيا أن ترسما خطاً في السياسة أو في غيرها خارج الحسابات الأميركية، على الأقل في حسابات النظام العالمي القائم على الهيمنة الأميركية، ويصعب على أي مراقب سياسي أن يقرأ هذا النزوع البريطاني -الفرنسي على أنه لا يتم بالتنسيق مع الأميركي، حتى لو كان من باب البلاهة السياسية، أو لو جاء من باب الغمز من قناة التناقض في الخيارات الأميركية التي تعبر عنها تصريحات الوزير كيري، أو من نافذة الإشارة إلى تراجع المقدرة الأميركية على جمع حلفائها على كلمة واحدة.
والمفارقة أيضاً أنه يضيف إلى تصاعد حدّة التشوّه في موقف القارة العجوز، تشوّهاً في المسار السياسي والأخلاقي الذي تريد تلك القارة أن تبحث من خلاله عن موطئ قدم خارج حسابات الكبار على المسرح العالمي بوجهه الجديد حين تستبدل عكازي الامبراطورية الكونية بالإرهاب والتسليح، مما يرسم المزيد من علامات الاستفهام وإشارات التعجب، حين يكون من المسلم به على المقلب الآخر أن الأوامر الأميركية هي ذاتها، ولا تزال القارة العجوز بعكازاتها قديمها وجديدها وأشباه العكازات فيها، رهينة لا تقبل الفكاك من الحظيرة الأميركية، ولا تستطيع حتى لو أرادت، ولا هي مؤهّلة حتى للتفكير به.
الأخطر في السياق ذاته أن يحاكي الفرنسيون والبريطانيون الأوهام ذاتها، التي دونتها جلسات «سايكس - بيكو» ومحاضر لقاءاتهما المطولة، وأن يعيشوا أحلام يقظة قائمة على المفردات نفسها، دون أن يأخذوا بالحسبان الفارق الهائل في كل شيء، أقله أن أمواج أطماعهم التي احتاجت قبل قرن إلى عقود عدّة للارتداد على أوروبا، تتمّ على عكازين اعتادا الارتداد بزمن أقل وبطريقة أصعب وأكثر خطورة، وأن زمن الوصاية على الشعوب قد ولى، ولا يمكن لعقارب الزمن أن تعود إلى الوراء، حتى لو استبدلا العكازين!!
الشراهة الأوروبية في تسليح الإرهابيين ليست الوضع الطبيعي، ولا هي خارج منطق الفهم الأميركي أو التفاهم عليها وصفقات التسليح الأوروبية ومعسكرات التدريب في الجوار العربي والأقليمي شواهد وقرائن، وعكس ذلك هو حالة مرضية واضحة الأبعاد، وفي أرذل العمر تصبح تلك الأعراض جزءاً لا يتجزأ من المأزق الأوروبي القائم على الحسابات الخطأ في المكان والتوقيت الخطأ.
هذا ليس جردة حساب، لكنه قد يكون مدخلاً أولياً لفهم بعض ما يجري من هلوسات في السياسة الأوروبية، وما يقابلها من التواءات في الدبلوماسية الأميركية، ناتجة ربما في بعض تجلياتها عن الاعتماد على الحماقة الأوروبية ، وما ترسمه من خطوط عرجاء في السياسة والإعلام والأهم في العلاقة مع الإرهاب والتسليح!!.
a.ka667@yahoo.com