السمعة الائتمانية تحددها عناصرعدة يحتاج توفرها إلى عمل وإنجازات دؤوبة ومستدامة ، في حين أن فقدان درجات من مستويات التصنيف لايحتاج الى الكثير، اضطرابات مستمرة في بلد ما ولعدة أسابيع أو أشهر كفيلة بتراجع التصنيف من ثلاثة زائد الى «جنك» أو خردة ، ولنا أن نتصور الارتدادات الاقتصادية التي تنجم عن تلطيخ السمعة الائتمانية وفداحة تكاليفها، في تركيا، وفي غضون أسبوعين قدر بولنت أرينتش نائب رئيس الوزراء التركي خسارة اقتصاد بلاده بأكثر من 100 مليار دولار رافقها تراجع لليرة بنسبة 15 %. فكم الخسارة التراكمية اذا استمرالنزيف حتى موعد الانتخابات البلدية في آذارالمقبل؟.
ماذا بعد؟ قد يرى بعض المنافحين عن سياسة أردوغان أن ماحصل للبلاد مجرد «كريب» وأن فيتامينات التعافي تتكفل بالبراء منه. الصندوق له حساب آخر. داء الاضطرابات يشبه المرض الخبيث، الشفاء منه يحتاج الى جلسات وجرعات وجرعات، فانظروا كيف أن 132 شخصية صف أول في الاقتصاد التركي - هم رؤساء مجالس إدارات وأصحاب شركات محلية وأجنبية عملاقة( استطلعت الايكونومست أراءهم ) - أبدوا قلقهم من تأثير حاد في عام 2014 على اقتصاد البلاد ، والقلق مفردة دبلوماسية بامتياز تستخدم لإخفاء فيل وراء فأر، والمقصود بها أن ثمة مخاوف حقيقية من انتكاسة للاقتصاد التركي، وفي هذا المقام لن نغفل أن هؤلاء قرؤوا بعين المحترف التداعيات السلبية لقرارات مجلس الاحتياطي الأميركي بتقليص برنامج التحفيز النقدي، الذي يؤثر بشكل مباشرعلى تدفقات الاستثمارات التي تستقبلها الاقتصاديات الناشئة، ومنها تركيا.
الاقتصاد التركي حصد مع مطلع العام تصنيفات بدرجة واحدة على عملته وعلى ديونه السيادية من عدة وكالات تصنيف، لكن «فيتش» تقول إن استمرار الاضطرابات سيؤثر على التصنيف الائتماني للبلد، ولأن ملفات الاضطرابات تتوالى ، ونزيف المليارات يزداد، فالتصنيف الائتماني سيضطر للتقهقر، فإذا مااجتمعت مخاوف المستثمرين الحقيقية مع أوضاع أمنية أثرت على تدفق السياح( في تموز الماضي نمت السياحة بأقل معدلاتها في عام ) يعني أن ثمة حرجاً منصوباً أمام هذا القطاع ،الذي تفاخرتركيا بإيراداته ، وترسم له هذا العام ليحقق لها إيرادات بنحو 35 مليار دولار.
كل ذلك على المحك ، وكل الدعاية الرسمية التركية المتفائلة عن إعادة ترميم سريعة للبثور التي لحقت بوجهها ستكون مجانية وفارغة وبلهاء تماماً، فإعادة البناء ، ناهيك عن كلفتها الباهظة ، تحتاج إلى زمن طويل لإعادة إقناع المستثمرين والسياح بالرجوع إلى مطارح لم يخبُ فيها جمر القلاقل بعد.
الاضطرابات لعنة ، أول ماتضغط على قوت الإنسان ، والناس يبتعدون عمن يصعّب عليهم الحصول على أقواتهم. في اليونان تقدم الاقتصادي على السياسي ففتكت أظافر الفاقة في المجتمع اليوناني، وفي مصر وتونس واليمن تقدمت اضطرابات السياسة فخلعت القطاعات الراسخة في الاقتصاد من أماكنها ، فللنظر للمصريين وهم يتسولون السائح تسولاً وكأن مساً من لعنة الفراعنة أصابهم.
«النموذج التركي» لم يعد صالحاً للتصدير، فالتشكيك اليوم طال كل أدبياته ، فالاقتصاد الذي نهض على التحالفات السياسية، بجناحيها الديني ممثلاً بجماعة فتح الله غولن ، والسياسي ممثلاً بالحزب الحاكم- وبين الطرفين نمور الأناضول وهم رجال أعمال محافظون يميلون إلى التيار الإسلامي- لايمكنه بناء اقتصاد لأجل الاقتصاد فوق حزبي.
الذي حصل أن الإسلاميين يأكلون بعضهم بعد أن يقصوا خصومهم التقليديين . حصل ذلك في مصر بين الإخوان والتيار السلفي ، وهاهو يعيد نفسه في تركيا ، فالصراع الجشع نشب بين «أخوة الأمس» على بسط النفوذ والتمدمد في أجهزة الدولة الحساسة، و الصراع السياسي كالزلزال له ارتداداته التي تضرب الاقتصاد ، وضررها عليه يكون وفقاً لشدتها ، فإذا ماكانت الخسائر الأولى بمئة مليار دولار ، والحبل على الجرار فإن التقديرات تذهب باتجاه اتساع فتق الاقتصاد. حقاً اتسع الفتق على الراتق.