ذلك أنه من الصعب العثور على من هو أكثر ولعاً بالصمت من عطية مسوح.
ينتمي هذا الرجل إلى نوع نادر من المثقفين الذين ينأون عن الأضواء والضجيج من أجل توفير فسحة أكثر اتساعاً للتحليل الهادىء والتفكير العقلاني الموضوعي, وهو منذ سنوات طويلة يقسر نفسه على التزام عزلة إرادية أثمرت دراسات وكتباً هامة جريئة ومؤثرة.
لم أكن أعرفه تقريباً عندما كتبت عرضاً مقتضباً لكتابه (الماركسية وأسئلة العصر),وفي اليوم التالي لنشر هذا العرض صادف أنني قمت بزيارة إلى بلدة في محافظةالسويداء كانت ولاتزال تُعد معقلاً (للرفاق المؤمنين بعودة الرايات الحمراء خفاقة),وقد عوملت يومها بكثير من الريبة والجفاء لمجرد أنني تجرأت على ذكر مسوح والتنويه بكتابه,ولازلت أذكر جملة طائشة قالها أحدهم وحظيت بموافقة جميع الحاضرين(إنه صاحب مشروع تخريبي للفكر اليساري برمته) عندها عرفت أي موقف صعب يواجهه,وأي دور مأساوي يترتب عليه أن يلعبه.
بعيد انهيار الاتحاد السوفييتي انقسم معظم المثقفين اليساريين (الماركسيون خاصة) إلى فريقين:الأول ضم أولئك الذين تنكروا لتجربتهم وإرثهم وراحوا يجلدون ذواتهم في نوع من التكفير عن الذنب ممهدين لانتقالهم إلى الخندق المقابل. أما الفريق الثاني فقد ظل متشبثاً بالشعارات نفسها وكأن شيئاً لم يتغير.
عطية مسوح مع آخرين قلائل جسد خياراً ثالثاً إذ شرع في إعادة النظر في الأسس والجذور بأدوات علمية عقلانية مبتعداً عن الأفكار الجاهزة والتبريرات الساذجة ولاسيما الكليشة الأكثر تكراراً (لاخطأ على الإطلاق في النظرية وإنما الخطأ في التطبيق وحسب)وهو لم يهدف من وراء ذلك الى التقويض أو التخريب بل إلى إعادة البناء على أسس أكثر رسوخاً والتأسيس لفكر اشتراكي- يساري أكثر انفتاحاً وانسجاماً مع روح العصر,غير أن هذا لم ينجه من هجوم المتمترسين خلف عقائدهم الجامدة حتى أن قائداً يسارياً بارزاً أطلق هذا التصريح الناري:(لو كان لي سلطة على عطية مسوح لعلقت له مشنقته)
مسوح لايزال يكتب, وبهدوء ماكر لايزال مصراً على زعزعة الأسس المكونة للعقائد والأصوليات المنغلقة سواء الدينية منها أو العلمانية...