غول فلت من عقاله وما زال يقتل كيفما توجه و أينما وصل. تودعهم شباباً مثل الورد و تأتيك أخبارهم جثثاً محظوظ منها من وجد فرصة للدفن. فعلى من منهم تبكي و تحت أي راية مات؟!
لم يبق دمع للبكاء ولا نية لدي بمرثية أو عزاء، فمع الموت يموت فينا شيء و تجفل الذاكرة. أمام عرس الموت و هيجان طبوله ليس ثمة من يبكي موتاه! بل يبكي حاله وروحه و يخاف على الذاكرة، فمن سيتلو الحكاية على من يبقى من الأحياء؟!
موت الشباب هو موت الوطن... وموت الشيوخ هو موت الذاكرة. رغم ازدهار موسم الموت إلى درجة التخمة استوقفني دون أن يصدمني، موت الراحل عثمان عدي، ربما تجاوز في عمره التسعين، و كان لا بد أنه راحل. رحيله لا يستمد وقعه من كونه محامياً شهيراً ولا من مروره من موقع نقيب محامي حماة، ولا من عضويته السابقة لمجلس الشعب، ولا مما كتب وخلف من كتب، ولا حتى من نضال الشباب الاشتراكي و مواقفه بعد الاستقلال ودوره في ذلك. بل هو ألم ذاكرة تودع ذاكرة تاركة لها أخبار الفشل و البؤس و اليأس و انكسار الأحلام.
في حديث معه منذ سنوات، و كنت أنادي بعمل يكرم شخصيات الوطن الذين عبروا، بغض النظر عن موقفنا السياسي منهم، و كان المرحوم أديب الشيشكلي محور مانتحدث عنه، ولهما تاريخ من الخصومات السياسية حتى العداء المطلق، قلت: كانت الصراعات معركة على السلطة، فرفض. وقال أديب الشيشكلي كان مشروع سلطة، أما نحن «يعني حزب البعث العربي الاشتراكي في حينه» فكنا مشروعاً قومياً.
كان المشروع القومي يوم حديثنا في معاناة تسبق إعلان الفشل، ولم تكن رأسه قد تدحرجت على التراب بعد، يلعب بها أبطال التواؤم مع الاستعمار الغربي و رواد «الديمقراطية» في الخليج الموصوف بالعربي – يا حسرة – وكان السقوط دموياً بشدة أحياناً وتقل دماؤه المهدورة أحياناً أخرى، والحلم الجديد بناء ديمقراطي وطني.
في زمن سقوط المشاريع الكبيرة من أممية اشتراكية إلى قومية عربية، وليس بعيداً عن ذلك المشروع الإسلامي الذي سربلوه دماً و جعلوا نشيده الموت بحثاً عن الجنة، وأدواته القتل والتدمير والإرهاب، فماذا بقي للمشروع ليشرحه في عصر النور لا الظلمات ؟! في هذا الزمن يبدو طرح المشروع الوطني حقيقة بديلة تتيح للشعب العودة إلى المربع الأول، في محاولة لرسم مخطط الدولة الوطنية الديمقراطية بحق. على الأقل سنجد في ظلها فرصة لقراءة الفاتحة على أرواح المشاريع الأخرى و روادها و مناضليها حسني النيات، ومنهم صديقي الراحل عثمان عدي.
لكن...ليحذر كل من يحلم بالمشروع الوطني.. ليحذر.. ثم ليحذر.. فلن يكون من السهل على أعداء المشروع القومي من استعمار غربي ومعه تركيا العثمانية والخليج المرتهن، أن يقبلوا بالمشروع الوطني الديمقراطي، ولا بالمشروع الإسلامي، فكيف بهم أن يعاضدوه ويدعموه ؟؟!! إنهم يرفضون وجود الدولة القادرة على الصمود والتطور في هذا الشرق، وفي ذلك أحد أسرار عدائهم للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
فيا نحن.. يا أصحاب الحلم الوطني الديمقراطي.. لاتصدقوا ما لا يكون أن يكون.. ورحم الله الشهداء و الموتى.
as.abboud@gmail.com