تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


بوتين العائد وروســـــيا الصاعدة

إضاءات
الإثنين 5-3-2012
د.خلف علي المفتاح

اعتقد الاستراتيجيون الأميركيون أنهم وجهوا الضربة القاضية للإمبراطورية السوفييتية ونواتها الصلبة روسيا الاتحادية، وأن العصر الأميركي أصبح حقيقة واقعة وعلى جميع شعوب العالم التسليم بذلك

وعلى خلفية تلك الرؤية الحالمة جاء المنظرون الأميركيون أمثال صموئيل هاتنغتون وفرنسيس فوكوياما وبرنارد لويس ليبشروا بنهاية التاريخ ودخول العالم عصر الإمبراطورية الأميركية التي ستكون وحسب زعمهم آخر امبراطورية كونية ولا أحد بعدها.‏‏

وسعيا لتحقيق ذلك عملت الإدارات الأميركية المتعاقبة على تكريس هذا المفهوم بطريقتين وأسلوبين باستخدام القوة الخشنة بشكل مباشر كما جرى عليه الحال في أفغانستان والعراق وكوسوفو، أو بالقوة الناعمة وبوساطة الغير كما جرت عليه الأمور في الوقت الحاضر، وهو ما أطلق عليه الاستراتيجيون الأميركيون الإمبراطورية بثمن رخيص، حيث يتحمل الحلفاء العبء العسكري والمادي ويقتصر الدور الأميركي على ما سموه الدعم من الخلف وعند الحاجة أو الرحلة المجانية، ولم يدر بخلد راسمي الاستراتيجيات في البيت الأبيض أن ثمة قوة ناهضة حقيقية لها تاريخها وإمكانياتها وإرادتها واعتزازها وكرامتها الوطنية لن تقبل هذا المنطق، المرتكز إلى ثقافة القوة والهيمنة والنفوذ ولا بد لها من استعادة موقعها الطبيعي في الخريطة السياسية الدولية في اللحظة التاريخية المناسبة.‏‏

ومع بروز إرهاصات أولى وفي أكثر من مكان لتململ ورفض لسياسة الهيمنة ترافق مع تبلور رأي عام عالمي يصب في الاتجاه ذاته أخذت بعض الدول المؤثرة في رسم الخرائط السياسية الدولية تبدي مواقف رافضة لتلك السياسات، وصلت إلى درجة المواجهة المباشرة معها في أكثر من ساحة، رافقها عراك سياسي وأيدلوجي وعسكري ساهم إلى حد كبير في كبح ذلك التوجه الذي شكل سابقة في العلاقات الدولية التي تقوم على مبدأ التوازن في المصالح واحترام إرادة واستقلال وسيادة دول العالم وانسجاماً مع ميثاق الأمم المتحدة والشرعية الدولية.‏‏

ولمواجهة سياسة الرفض تلك لجأت الولايات المتحدة الأميركية لاتباع مبدأ احتواء وتطويق تلك القوى الناهضة بإخراجها المنظم من مناطق نفوذها وتطويقها بسلسلة من الأحلاف والتوابع السياسية لغرض التضييق عليها وجعلها تنكفئ إلى داخلها عبر إثارة قلاقل ونعرات دينية وعرقية وطائفية وحالات تمرد خططت لها وقادتها الاستخبارات الأميركية في أكثر من مكان، وخاصة في تلك الدول التي رأت فيها الولايات المتحدة الأميركية منافساً حقيقياً لها أو خارجا عن رتلها السياسي وفي مقدمتها كل من روسيا والصين وسورية وإيران وفنزويلا وغيرها، وهنا كان لا بد لتلك الدول من مواجهة هذه السياسة العدوانية اللاأخلاقية في أكثر من ساحة وميدان إضافة لتعزيز قدراتها العسكرية والاقتصادية وتحصين داخلها ليكون عصيا على الاختراق من أي محاولات تحاول النفاذ من نقاط ضعيفه.‏‏

من هذه العناصر المشار إليها أي مواجهة سياسة الهيمنة الأميركية وتحصين الداخل وتعزيز القدرات العسكرية والاقتصادية انطلقت السياسة الروسية التي قادها الرئيس بوتين حيث خاض معركة كبرى ضد الفساد بكل أشكاله وعناوينه ومرتكزاته نجح من خلالها في إعادة الاعتبار للسلطة المركزية الروسية داخليا وهو ما شكل الرافعة الحقيقية لتعزيز دور ومكانة روسيا على الصعيد الخارجي انطلاقا من قوة الداخل الروسي.‏‏

فعلى الصعيد الحكومي قام بتطهير الإدارة وكوادرها من رموز الفساد التي تسلقت لمواقعها في عهد الرئيس السابق يلتسن، وهي تتشكل في غالبيتها من نخب سياسية واقتصادية عملت على احتكار النفط والغاز مستغلة بيع القطاع العام الروسي وخصصته بتواطؤ واضح مع بعض أصحاب النفوذ السياسي في ذلك العهد، وخاصة المستثمرين الأجانب الذين تحالفوا مع اللوبي اليهودي في روسيا الذي عمل ولا زال بدأب ليشكل قوة حقيقية في المشهد الروسي العام مستحضرا النموذج الأميركي، ممثلاً بالايباك وغيره من أشكال السيطرة على المشهد العام الأمريكي وخاض الرئيس بوتين وحكومته معركة وطنية صعبة بهدف استعادة سلطة الدولة وممارستها بشكل فعلي معتمداً على كوادر وطنية حزبية وسياسية وأمنية كفوءة ونظيفة وجدت حاضنا أساسيا لها متمثلا في القاعدة الشعبية الواسعة التي كانت أكثر المتضررين من السياسات النيوليبرالية لمراكز القوى تلك.‏‏

لقد ساعدت سياسة بوتين تلك في ضرب وتقويض وإضعاف تلك المراكز ما عزز من مكانته الشعبية كرمز وطني إصلاحي، وهو ما انعكس على الحيز الاجتماعي لحزب روسيا الموحد الذي يقوده ومكنه من الحصول على الأغلبية البرلمانية وبالتالي تمهيد الطريق له عبر الانتخابات للعودة إلى الكرملين لا رئيساً فقط وإنما زعيم سياسي وقائد وطني يستمد قوته وشرعيته من حاضن وطني واسع يدفع به وبسياساته لعودة روسيا قوة عظمى على الصعيد الدولي.‏‏

وفي عالم ما بعد تحلل وبدء انهيار عالم القطبية الأحادية و مع هذه السياسات المتحررة من كل أشكال الضغط الخارجي وأدواته الداخلية نرى روسيا اليوم بمواقفها الواضحة والصلبة في المحافل الدولية ولاسيما في مجلس الأمن ومواجهتها هي وجمهورية الصين الشعبية لسياسة الهيمنة الأميركية تعيدان رسم خريطة دولية جديدة ودور وظيفي لهذه المنظمات الأممية ينسجم مع مبادئ الشرعية الدولية ومبدأ سيادة الدول على إقليمها ورفض مبدأ التدخل الخارجي في شؤونها، وهو ما يجعل هذه المنظمات أكثر فاعلية و احتراما على الصعيد الدولي ويعيد الاعتبار لها لجهة قيامها بدورها استنادا لقواعد أخلاقية وقانونية ارتضاها المجتمع الدولي.‏‏

إن هذا الدور المتميز والطبيعي لروسيا هو الذي يفسر حجم استهداف الرئيس بوتين شخصياً حيث يرى فيه الغرب بضفتيه قيصرا يهدد مصالحه، وهو يسعى لاستعادة دور روسيا الذي حاول الغرب اختطافه ونجح في ذلك لفترة غير قصيرة من الزمن، وعند هذه النقطة بالذات يمكن للباحث عن إجابة لهدف ما تسعى بعض وسائل الإعلام في الغرب وغيره للتحريض السياسي والإعلامي إضافة إلى محاولة تحريك بعض الشارع الروسي وتأليبه على نتائج الانتخابات البرلمانية والادعاء بأنها مزورة بهدف الإساءة للرئيس بوتين ومحاولة التأثير على الانتخابات الرئاسية التي جرت أمس وخاضها الرئيس بوتين مستنداً إلى سمعة دولية وتأييد شعبي واسع ودعم من بعض القوى السياسية خارج حزبه، وفي مقدمتها الحزبان المعارضان الحزب الشيوعي بزعامة غينادي زيو غانوف وجيرانوفسكي زعيم حزب القوميين الروس.‏‏

إن نجاح الرئيس بوتين في الانتخابات الرئاسية سيجعل من روسيا دولة أكثر نفوذاً وأهمية على الساحة الدولية وخاصةً أنها تمتلك رصيداً طيباً لدى شعوب العالم من خلال تاريخها المشرف، فروسيا هي التي رفضت المشاركة في الحروب الصليبية على الشرق ووقفت ضد التواطؤ الغربي اليهودي بشأن فلسطين، وهي ذاتها التي حطمت جيوش نابليون قبل معركة واترلو واستطاع شعبها وجيشها الأحمر في العصر الحديث تخليص البشرية وخاصة أوروبا من شرور النازية عندما دحرت جيوش هتلر وحلفائه عند أسوار ستالينغراد, ولا يمكن لأحد من أبناء العالم الثالث أن ينكر لروسيا السوفييتية دورها الكبير في نصرة شعوبها ودعمها ومساعدتها اقتصادياً وتنموياً وتقديم المنح لملايين الطلبة دون النظر لجنسهم أو لونهم أو دينهم، إضافة إلى مواقفها الداعمة للسلم والأمن الدوليين، كل هذا وغيره الكثير يجعل من الرهان على روسيا قوية وفاعلة أملا يراود مشاعر الملايين في كافة أنحاء العالم.‏‏

khalaf.almuftah@gmail.com

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 خلف المفتاح
خلف المفتاح

القراءات: 11293
القراءات: 1057
القراءات: 811
القراءات: 961
القراءات: 839
القراءات: 906
القراءات: 920
القراءات: 881
القراءات: 954
القراءات: 897
القراءات: 910
القراءات: 878
القراءات: 906
القراءات: 941
القراءات: 990
القراءات: 958
القراءات: 1050
القراءات: 1028
القراءات: 959
القراءات: 1020
القراءات: 958
القراءات: 988
القراءات: 1007
القراءات: 1049
القراءات: 1262
القراءات: 1199

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية