وتحت ضغط الاشتراطات المتبدلة كل لحظة، والمتصاعدة من طور إلى طور، بينما رسائل البريد السري تشهد ذروتها من تحت الطاولة ومن فوقها.
المدهش في الأمر، كان افتعال كل هذا الدلال المفجع في صياغة رؤية تقترب أو تبتعد من الهوس، لإرضاء حفنة مصطنعة من هياكل الوجود السياسي المنتج وفق مقاييس سعودية بدائية غارقة في الوهم، تجادل في الديمقراطية والدولة المدنية، ومعها أيضاً الحرية وحقوق الإنسان!! وهي تنازع في الجزئيات، قبل أن تطلق حملة العناوين الفضفاضة، كي تتحول المنصة الأممية إلى مسرح عبثي لا طائل من الانتظار على موائده، ولا جدوى من المسايرة في شكلياته.
الترف الذي تتعاطى به الأمم المتحدة في تدوير الزوايا والدعوات الناعمة وغير المقنعة التي تصدر عن البيت الأبيض والخارجية الأميركية، ليس خارج سياق الشد العكسي المعمول به قبل الوصول إلى طاولة جنيف، وقد أنهكتها المساومات والمبازرة في الأسماء والهياكل، بحيث تتحول إلى موضع للصور التذكارية والابتسامات العريضة، أو الكآبة المصطنعة أمام الكاميرات، وقد أفرغتها لغة المهادنة من أي معنى، أو في أفضل الحالات حولتها إلى مرجل حصى.
في الصياغة الفعلية لسنا بوارد الحديث عن الملاحظات التي أتخمت تفاصيل الأيام الماضية، ولا التوقف عند كثير من الترهات التي فاضت عن قدرة محادثات جنيف على استيعابها، وسط تهويل وتصعيد وتسخين يكاد يحوّل المشهد إلى مبارزة كلامية جوفاء، تحل مكان الحديث عن الأولويات والأهداف الفعلية لمحادثات جنيف، حيث هناك من يريد أن يخرج مكافحة الإرهاب من التداول، وقد أرجعه إلى التحالف الدولي، أو أعلن استقالته المسبقة من مواجهته أو البتِّ فيه، وبرفقته عينات منه، خصوصاً مع اللغط المستفحل حول هوية المعارضات المشاركة وانتماءاتها ومرجعيتها السياسية والفكرية والتمويلية، حيث تطول القائمة إلى حدّ الخطط في محاولة لفرض إرهابيين بطرابيش جديدة.
اللافت أن الغبار المثار لا يهدف إلى الإلغاء الذي يبدو ظاهرياً على أنه الجوهر، بقدر ما بات حالة قائمة بحد ذاتها، غايتها التعتيم على الأولويات، وأصبح الانعقاد من عدمه هو المسيطر على الاهتمام، وابتعد الحديث عن القضايا التي سيناقشها المؤتمر إلى ذيل لائحة الاهتمام الإعلامي والسياسي، وبالكاد نلمحه هنا أو هناك في نتف غير مترابطة ولا متجانسة، وهذا يفسّر إلى حد كبير كل ذلك اللغط المستعر هنا أو هناك.
فبعد شروط تصعيدية لم تكن مطروحة، ولا هي على لائحة النقاش، يأتي الدور على أشكال من المراسلات البينية المتعمدة لإضاعة الوقت تحت بند انتظار الإجابات، والسؤال: لماذا لم تكن تلك الهواجس مثارة قبل الموعد المحدد؟ ولماذا استفاقت على هذا الكمّ من التناقضات المثيرة، حيث لا يخفي بعضها على الأقل الرغبة في حسم المحادثات قبل أن تبدأ، فالعربة أمام الحصان والشد عكسي، وهنا لم تعد العودة إلى المربع الأول هي المعضلة، بقدر ما كانت العودة إلى ما قبله، والنبش في الأوراق القديمة والجديدة عن صيغ تعديل إضافية.
جميعهم مَنْ اعترض واشترط.. مَنْ علا صوته ومَنْ خفت.. يذهب إلى جنيف تارة لمناقشة المبعوث الأممي، وتارة لبحث شروط وتفاصيل المكاسب المحققة سلفاً والممنوحة، وتارة تحت صيغة استشارية أو خبراء، حيث تتلون إلى حدٍّ باتت الألوان تتماهى مع بعضها، ولم يعد متاحاً الفرز ولا التفكير في الاصطفاف الذي تقتضيه مفصلية اللحظة التي تفترض أقصى درجات المسؤولية الوطنية، وأن تكون جزءاً من الفعل السياسي المتقن كي تعبّر عن ظروف ومعطيات ترتقي إلى مستوى ما تمثله تلك اللحظة.
جنيف.. يفتح أبواب قاعاته، ويجول في ممراتها وعلى طاولاتها المبعوث الأممي، ليعيد الاستماع إلى كثير مما سبق له أن سمعه، وسيكرر الاستماع، خصوصاً من تلك الأطراف التي جاءت أصلاً لتكون بلسان غيرها، حيث الشد العكسي سيكون بأقصى طاقاته، حاله في ذلك حال مرجل الحصى الدائر ليعود إلى النقطة التي انطلق منها، وفي أحيان كثيرة إلى ما قبلها، وقد جاءتهم رسائل البريد الأميركي واضحة صريحة، بينما كانت وصايا الفجور السعودي حاضرة في تفاصيل وجودهم، كما هي مكتوبة في جيوبهم، وعلى جنيف وقاعاتها أن تكون شاهداً إضافياً على طبخة لا يراد لها أن تنضج يوماً.
a.ka667@yahoo.com