من المخاتلة والدجل المكشوف أن تعلن الإدارة الأميركية «حرصها» الشديد على إمداد ما تسميه فصائل المعارضة السورية «المعتدلة» بالسلاح شرط ألا يصل هذا الإمداد إلى من تعتبرهم واشنطن متشددين وذوي أصول أو امتدادات قاعدية.. ولذلك هي اليوم منشغلة بالغربلة والتمحيص والفرز بين من هم من المتطرفين ومن هم من المعتدلين، والله وحده في عليائه يعلم كيف تستطيع أميركا التمييز بين هؤلاء وأولئك.. إذا كانوا هم لا يستطيعون تمييز أنفسهم وفرز فصائلهم فمرة يقاتلون هنا ومرة يقاتلون هناك، والولاء والانشقاق عندهم سيرة يومية تصرف حسب الدولارات والريالات، وكل راياتهم.. كما وجوههم سوداء!
ولكي تزيد في الطنبور نغماً، فإن إدارة الرئيس أوباما توكل مهمة الفرز والتمحيص إلى من هم أدرى منها ومن خبرائها في إعراب المتطرف عن المعتدل، فمرة تكلف حكام قطر ومرة تكلف حكام السعودية وثالثة تكلف أردوغان ومجلسه الإخواني العالمي، ويمكنكم هنا تخيل النتائج التي تعود بها التكليفات في كل مرة، وبالطبع، فإن لدى الإدارة الأميركية من الصبر والجلد والاحتمال أن تماحك وتسفسط وتتفذلك في تطرف هذا واعتدال ذاك ثم انقلاب الاثنين كل منهما إلى ضده.. فماذا يضيرها إذا كان الاثنان يقتتلان ويقتلان من الحساب الجاري للدم السوري في البنوك السعودية أو القطرية أو غيرها؟
صحيح أن أميركا الدولة، وعبر كل تاريخ إنشائها منذ أكثر من خمسة قرون، كانت وما زالت الدولة الأكثر إجراماً في التاريخ منذ حربها الأولى في إبادة سكان أميركا الأصليين وصولاً إلى سورية اليوم، وصحيح أنها الدولة الوحيدة في التاريخ التي استخدمت أسلحة التدمير الشامل بأنواعها الثلاث النووية والكيماوية والبيولوجية في اليابان وفيتنام وكوريا والشرق الأقصى والعراق وغيرها، إلا أنها الوحيدة أيضاً في استخدام نوع رابع هو الأشد تدميراً من كل الأسلحة، ببراعة لافتة وعن طريق التحكم عن بعد، سلاح لا يمسكه جنودها بأيديهم مباشرة ولا تنقله حاملات طائراتها وصواريخها، بل تديره من بعيد وهو قابع في عقول الآخرين من أعدائها، فتحوله إلى ما تريد من الأسلحة، بدءا من الأغلال والقيود وصولاً إلى العبوات الناسفة، فثمة من تريد تسييره وتشغيله من هؤلاء الأعداء وثمة من تريد نسفه وتفجيره ذاتياً دون أن تقترب منه!
أخلاقياً، لا تتحمل أميركا كامل المسؤولية في جرائم الإبادة الجماعية الناتجة عن استخدام هذا السلاح التدميري الرابع.. والقابع في عقول ضحاياها، فالجهل جهلهم هم وليس جهلها، والتخلف من صناعتهم وليس من صنعها عملاً بالقاعدة القانونية «القانون لا يحمي المغفلين».. فما بالك إذا كانت الدولة الأميركية تاريخياً تفتقد كل أخلاقيات الحرب، وهل توفر سلاحاً لا يكلفها إلا الفرجة والضحك!
الأرجح أن أميركا ستستغرق طويلاً في تساؤلاتها عمن هو المتطرف والمعتدل بيننا، لطالما سلاحها التدميري الرابع يعمل بكفاءة عالية!