إذ لا يخلو حديث لأديب أو مثقف غربي من الاشارة تلميحاً أو تصريحاً إلى ضرورة الاستفادة من تجربته والعمل على تعميمها.
ولتبرير ولوجه لهذا الشرق المليء بالالغاز حتى اخره, فإنه لا يتردد في سرد مقدراته على فك تلك الألغاز بطريقته, لتصبح الرسالة الدائمة الموجهة هي تبديد الألغاز تلك مع مسحة من الوعظ .
ربما كان الاختلال في المناخ الذي أتاح لأولئك الحديث المسهب عن دورهم في تغيير أنماط السلوك والتأثير في توجهات مجتمعاتهم, مقابل تراجع مطرد في دور نظرائهم من أبناء المنطقة, ربما كان هذا الاختلال, قد برر بشكل ما القبول بذلك الطرح, بل وساهم في التماس العذر لتلك الرؤية المتخمة بالنصائح والارشادات.
هذا الأمر بالتأكيد ليس جديداً, ولكنه في عصر العولمة يأخذ منحى مختلفاً وخطيراً, حين يتحول إلى شكل من أشكال تكريس التفوق الغربي حتى في سلوك بعض أدبائنا ومبدعينا وصولاً إلى تحديد مساحة أدوارهم وفق منهجية تقر سلفاً بقبول ذلك الطرح, باعتباره رؤية سابقة لنا في الزمان والمكان.
المفارقة هنا ليست في ذلك القبول فحسب, بل أيضا في اعتباره حجة للذهاب بعيداً في التماس العذر إلى حد المقارنة الخاطئة, وفي أحيان كثيرة إلى حد الاتكاء عليه كدليل دامغ على فرضيات يسوق لها الغرب بأشكال ووسائل مختلفة.
ولو أن القضية كانت معكوسة, بمعنى لو حاول أحد ما أن يقدم نفسه على أنه قادر على فهم التجربة الغربية من واقع تعاطيه العملي معها, أو لو أن أحداً حاول تقمص دور أولئك في سرد تجربته الذاتية كشكل من أشكال التعويض عما يفتقده ذلك الغرب من خصوصية ميزت هذا الشرق, فإن ردة الفعل الأولى كافية لفهم حقيقة الموقف من هذا الشرق.
وبالتوازي معها, لو أن ما يتم قبوله من نصائح وارشادات مجرد حصيلة للتفوق الغربي تكنولوجياً وعلمياً وصناعياً, لكان الأمر قابلاً للفهم, ولكن أن يتحول إلى ذريعة لكي يقبل الآخر من هذا الغرب ما يرفضه, وما يعتبره أحد عوامل تأخره حضارياً وحتى ثقافياً, فإن القضية تصبح أمراً مختلفاً كلياً.
ربما اقتضت الضرورة, وحالة الغثيان القائمة نتيجة التدهور المستمر في أحوال المنطقة وبروز معطيات صراع أثرت بشكل مباشر في النتاج الحضاري والثقافي لأبنائها أن يتم التعاطي مع ذلك الطرح من زاوية مختلفة تقتضي فيما تقتضيه الادراك الأولي لدلالات الانغماس المباشر في الترويج لتلك المقولات.
وإذا ما أخذنا جملة من المواقف التي يطلقها أدباء وكتاب كبار في الغرب حيال معضلة التعاطي مع هذه المنطقة بمشكلاتها ومخاوفها وهواجسها, فإن الضرورة تملي التمعن في الصورة التي ترتسم في أذهان أولئك, والادراك بأن القضية ليست مجرد التماس للعذر بل هي في جوهرها متخمة في تأكيد التفوق, والأخطر تأكيد القصور الذاتي الذي تواجهه المنطقة.
وبعيداً عن الحسابات والاستنتاجات التي تقبل التأويل, لا بد من النظر إلى القضية بأبعادها الخطيرة في وقت نتعرض فيه للاستلاب جهاراً, ونقبل ذلك الاستلاب إلى الحد الذي يدفعنا في أحيان كثيرة إلى التماس الأعذار لأولئك, وصولاً إلى قبول طروحاتهم كشكل من أشكال قبول الآخر, والرغبة في فهمه, في حين يصر ذلك الآخر على تقديم فهمه لنا كما يريد وكما يرغب, وبالشكل الذي يحقق له رغباته دون اعتراض أو تذمر.