محمد أركون غاب. لعله تمنى علينا، خلسة، أن نزيل كل أثر تركه وراءه لأنه كان يخشى، ولعله بقي كذلك بعد الموت، أن تستمر رقصتنا داخل اللا معنى، هكذا إلى مالا نهاية..
أجل، رقصتنا داخل اللامعنى، بعدما لاحظ إصرارنا على اللعب في الظلام، وعلى التواطؤ مع الهشاشة، رافضاً أن يتولى حفَّارو القبور- القبور الأبدية، إدارة الثقافة العربية التي قال: إن ثمة من دفعها إلى تلك الحفرة العميقة، ليضيف: « أجل، الحفرة التي يولول فيها العقل».
لا أحد يكترث بولولة العقل، داعياً إلى مقاربة انتروبولوجية، وجدلية، فذة، للثقافة العربية التي قال إنها تنطوي على تلك التجليات المتوهجة التي وضعت جانباً، وبفظاظة، ودون أن يستبعد أن يكون ذلك مبرمجاً، وأن ألقى بالمسؤولية على العديد من المثقفين العرب الذين راحوا يتثاءبون داخل الثقافة الغربية التي طالما حضت البعض على التفاعل معها، ديناميكياً، لا على أنها معطف خشبي براق، بل على أنها أحد الأبواب التي تفضي إلى أفق كوني.
ضحك آنذاك. ضحك بأسى، ولاحظ كيف تعيش ثقافتنا على رصيف الروك اندرول، وكيف تتمدد عارية في الأقبية، متنبئاً ومنذ نحو ثلاثة عقود، بأننا نمضي بخطا وتيدة إلى الزنزانة. وسأل إذا كنت أنا، مثله، أصغي، بغضب، إلى الزغاريد التي تواكب رحلتنا إلى العدم..
سخر من الذين ينظرون إلى الأزمة على أنها أزمة سياسية، وعلى أننا العرب مجرد هزات ارتدادية داخل الحرب الباردة، ليتحدث بعيداً وعميقاً، عن أزمة رؤى، معتبراً، أن لحظة الانتحار طالت كثيراً، ومبدياً خشيته من أن تضمحل العزيمة فينا تدريجياً بتأثير الدوغمائية البعيدة المدى والتي تفضي، حتماً، إلى تجفيف العقل.
أجل، وقف محمد أركون ضد تجفيف العقل الذي يفترض أن يبقى في تطور متواصل، وفي انشغال متواصل، هو الذي كتب عن العقل في الساعة الخامسة والعشرين، حتى لا يكون الدخول الأخير في الضحالة. ولقد دخلنا..
لا، ليست المراوحة في العقل، بل الحراثة في العقل الذي، بدوره، قد يتواطأ « إذا ما وقع في لذة اللامبالاة».
بعد رحيله، قد تكون قهقهات الزنزانة أكثر دوياً من أي شيء آخر!!