حينذاك أيضاً اعتلى فرسان الكلام والتنظير وقراءة الفناجين صهوات ألسنتهم، وما بين جهل وادعاء وبين إدراك وبلاغة.. ذهبوا بالعالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً حتى ظننا يومها أن ساعات ما قبل القيامة قد أزفت وحان الموعد!
تذكرون جيداً كيف أن دول شرق أوروبا التي كانت منضوية تحت لواء ما كان يسمى «حلف وارسو» السياسي العسكري بقيادة الاتحاد السوفييتي لبضع عقود من السنين، انطلقت في سباق ماراثوني غير مسبوق نحو الاصطفاف في طابور ملء الاستمارات وتقديم طلبات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي واستكمال أوراق حسن السيرة والسلوك والأهلية، وفي ظن هذه الدول ومجتمعاتها أنها مسافرة غداً إلى الجنة الأوروبية الموعودة!!
بعد حوالي ربع قرن من السباق، وبعد جولة مسلية وعابرة من الثورات «المخملية» أو الأرجوانية المدروسة، وصل هؤلاء إلى إدراك أن الأمر لم يسر على النحو الذي كانوا يتوقعونه أو يشاهدونه على شاشات التلفزة، وأنهم لا يزالوا يراوحون عند أبواب المائدة الأوروبية العامرة ويلتقطون الفتات المتطاير من الجالسين حولها من قبل ومازالوا هناك إلى اليوم؟
شيء من قبيل هذه الأحلام والرؤى تعصف اليوم بملايين العقول العربية المتسائلة.. ماذا لو أجرينا استفتاءات مماثلة لما جرى في بريطانيا حول مجموعة كبيرة مما نريد أو لا نريد؟
بعضهم اقترح استفتاءات حول الإبقاء على جامعة الدول العربية أو شطبها، وبعضهم الآخر حول تحويل «مجلس التعاون الخليجي» إلى اتحاد على غرار الاتحاد الأوروبي أو فرطه، وبعضهم الثالث حول البقاء في «منظمة التعاون الإسلامي» أو مغادرتها.. وثمة الآلاف من الاستفتاءات المقترحة اليوم، والتي تنحو في أكثر من نحو سياسي وعرقي وطائفي وغير ذلك، ولكل مقترح أسبابه و«خيراته» كما يرى أصحابه والداعون إليه... وفي ظن الجميع تقريباً أن ما يجري أو ما يمكن أن يجري هو «قدر مكتوب» غير متوقع أبداً... والدليل بريطانيا؟
حتى الفلسفة الماركسية التي ناهضت الرأسمالية ووصفتها بالقسوة والوحشية والاستغلال والنهب والسرقة وغير ذلك... لا بل وناضلت طويلاً من أجل كشف حقيقتها السامة في جرعة العسل التي تعد الناس بها، اعترفت بذكاء الرأسمالية وبقدراتها الإبداعية في كل مرحلة من مراحل نشوئها وتوحشها، وسالت أحبار أقلام الماركسيين واليساريين عامة حول العالم في توصيف الذكاء الرأسمالي الخبيث وقدرته على الإبداع الشرير.
هل تصدقون اليوم أن ثمة «قدراً مكتوباً» بات يتلاعب بالرأسمالية فيعطل ذكاءها المبدع.. ولو كان شريراً.. وهي التي تلاعبت بأقدار البشر مئة عام وأكثر، بل هل تصدقون أنها نادمة وعلى وشك أن تسلمكم أسلحتها فتستفتيكم بما تريدون وما لا تريدون... والدليل بريطانيا!!