تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


«حذارِ أيها العشاق..»

اضاءات
الجمعة26-7-2019
لينا كيلاني

رسائل الحب الزرقاء الموشاة بالزهر والفراشات، والمعطرة بالشذى والرحيق، والمحملة برقة العبارة وعذوبتها لم ينج منها حتى مشاهير الشعراء، والرسامين، والكتّاب،

والفلاسفة، والمفكرين. مَنْ منا لم يسمع برسائل (جبران خليل جبران) إلى (مي زيادة) وهي تفيض بالشعور، أو برسائله إلى (ماري هاسكل) التي بادلها الحب ليس عبر الرسائل فقط.‏

تلك الرسائل مع مثيلاتها مما يتبادله الأدباء فيما بينهم كما في رسائل الفيلسوف، والمفكر (جان بول سارتر) صاحب فلسفة (الوجودية) إلى رفيقة فكره (سيمون دوبوفوار)، وغيره من أصحاب القلم شكلت جنساً أدبياً قائماً بذاته هو (أدب الرسائل)، وهي لا تقتصر على تبادل المشاعر فحسب بل لتبادل الأفكار أيضاً.. وقد يتوهج الحب عبر تلك الرسائل دون استئذان، وربما دون اللقاء كما كان حال (مي) و(جبران).. ورسائلهما شاهدة على ذلك على مدى عشرين عاماً من اشتعال العاطفة على طرفي لقاء الفكر والقلب، ولتتحول كلماتها فيما بعد إلى أثر أدبي خالد يظل يذكّر بأصحابه.‏

ذلك كان حال المبدعين.. أما بالنسبة لعامة الناس فعندما ينفصل الأحباء عن بعضهما، وتذوب قصة حبهما، والشغف الذي التهب في وقت ما بينهما يذهب كل منهما إلى مصيره وحده دون الآخر الذي كان رفيقه وحبيبه، وربما دون رسائل تحمل الذكرى التي كانت جميلة في حينها. أو أن الرسائل الزرقاء الشفافة المزينة برسوم أزهار البنفسج، والمعطرة بعطر الحب تطوى، وتودع في أدراج النسيان.. أو أنها تُمزق في لحظة غضب من حب مفقود.. هذا ما كان من شأن قصص المحبين حتى قبل عقود قريبة من الزمن.. إلا أن الأساليب اختلفت في التعبير عن الحب، أو الكره بدخول عصر جديد ممهور بالرقمية الجديدة.‏

فإذا بتلك الرسائل الورقية تختفي على أجنحة التواصل الإلكتروني فما عاد لها من حضور.. وقد أصبحت العلاقات العاطفية الآن تقاس لا بتبادل أوراق مطوية على عبارات نابعة من الشعور بل بتبادل الإعجابات، والتعليقات السريعة على صحفات مواقع التواصل.. وبعد أن توفرت على شبكة المعلومات عبارات جاهزة للحب، ومقتطفات من أقوال، إلى جانب الصور التي تختصر الكلمات، والرسوم التعبيرية بما يغني عن كل مكتوب.‏

هكذا تشتعل العاطفة، ويصبح الخطاب عاطفياً بامتياز ما دامت الصلة الرقمية معقودة بين المحبين، وربما تحت أنظار كل من يتابعهما من الأصدقاء.. لكن أمراً ما سيقع بمجرد أن تنفك تلك الصلة، ويحل الخصام مكان الوئام.. فإذا بأحدهما يبادر فوراً الى إقصاء الآخر في تأكيدٍ على أن كل ما بينهما قد ولى، وانتهى.. وسلاحه الأمضى هو حجب من كان رفيقه، وحبيبه من أن يدخل إلى صفحته الإلكترونية، وكأنه يتوارى خلف الجدران المصمتة معلناً انتصاره على الطرف الآخر الذي لم يعد قادراً على أن يتتبع أخبار الحبيب الهارب، وتفاصيل حياته الجديدة التي يرسمها بعيداً عنه.‏

بل لعله يحظره خوفاً من أن يقع مرة أخرى في ما وقع به قبلاً.. أو أنه يريد حجب أخباره ليُبقيها سراً غامضاً لا يُكشف غطاؤه.. وهكذا تُحجب مبررات الانسحاب، وتغيّر المواقف، والعاطفة ما كانت إلا أرجوحة لم تعلو في الهواء إلا لتهبط.. وأخطر ما في هذا المقال انتقال العاطفة من حال إلى حال، وعدم ثباتها على إيقاع واحد.‏

لقد أصبح الحظر بمفهوم الحب اليوم إنهاءً لأي علاقة، أو صلة بين طرفين، وقد تكون صدمة الحظر أقسى من كلمات الانسحاب، والهزيمة.. إذ تُختصر كلمات الاعتذار، ومفردات الهروب بخطوة صغيرة واحدة تحل محل كل الإجابات، لينتهي الأمر ببساطة، ولا جدال، ولا نقاش، ولا عتاب، ولا فسحة لإمكانية الرجوع.‏

فالحظر ثم الحظر، يا مَنْ كنت تظن نفسك أنك الأثير عنده، حتى لا تعود هناك من خيوط خفية تُنسج في اللوحة الخلفية ربما تنهار بسببها أسوار المقاومة، والجفاء ليعود اللقاء بدل الفراق.. وخوفاً من أن يتحقق ما قاله (جبران) في رسائل (الشعلة الزرقاء): «إن الذين يدركون خبايا نفوسنا يأسرون شيئاً منها».‏

أما مواقع التواصل كلها فهي تسمح بكل طيب خاطر لأن يحجب الحبيب الهارب حبيبه، ودون أن يحتفظ له بنافذة صغيرة يطل منها على أخباره، وشأنه في ذلك شأن كل مسيء لصاحب الصفحة، ولا سبيل لإقصائه إلا بالحجب.. لكن موقعاً واحداً اجتماعياً احترافياً خرج من معادلة العشاق، واستثنى نفسه من أن يقوم أحدٌ بحجب الآخر عنه، ولعله بذلك سجل نقطة إضافية لصالحه لا تعترف بمشاكل العشاق، وخصوماتهم لأنه لا يهتم بالتفاصيل اليومية، وبعد أن انحدر تعامل المحبين بين بعضهم بعضاً إلى درجة تبدل مفاهيم الحب، وتغير أساليب التعبير عنه، ليصبح الحظر على صفحات مواقع التواصل أمراً شائعاً.. ومعياراً لانتهاء كل ما كان بين اثنين، وكأنها الصفحة الأخيرة من كتاب إذ تغلق.‏

ومن قبلُ كانت رسائل الود والحب لا تُمزق، ولا تُسترد، بل تطوى بعناية وتُخبأ في العلب الثمينة، وفي الأدراج البعيدة حتى بعد افتراق الأحباء، وذهاب كل منهما إلى مصيره. وإذا ما حدث ومُزقت في لحظة غضب فإن الندم يصبح سيد الموقف.‏

وإذا كنا نلوم ذلك الاختيار الذي بموجبه تُحجب الصفحات عن أناس بعينهم، فإننا لا نستطيع أن نلوم المحبين إذا ما اختاروا الهجر والبعاد، فلكل قصة حب دروب أقدارها التي تسير فيها.. ولكل حالة شغف أسرارها التي تكشفها، أو تداريها.‏

فحذار أيها العشاق من انطفاء وهج الشعلة الزرقاء وأنتم ما تزالون أسرى من يدركون خبايا نفوسكم.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 لينا كيلاني
لينا كيلاني

القراءات: 583
القراءات: 592
القراءات: 555
القراءات: 554
القراءات: 680
القراءات: 600
القراءات: 642
القراءات: 584
القراءات: 535
القراءات: 538
القراءات: 531
القراءات: 545
القراءات: 552
القراءات: 546
القراءات: 590
القراءات: 607
القراءات: 604
القراءات: 538
القراءات: 604
القراءات: 639
القراءات: 579
القراءات: 662
القراءات: 544
القراءات: 711
القراءات: 636

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية